في الوقت الراهن -وربما أكثر من أي وقت مضى -أصبح التنوع جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. وفي خضم هذا التنوع الجميل، بات البحث عن قواسم مشتركة بين مختلف الثقافات والديانات والأيديولوجيات أمرًا بالغ الأهمية.
إن تعدد الأفكار والانتماءات لا يعني بالضرورة الاختلاف، بل ربما يكون مصدرًا للتكامل والتعايش. هنا تبرز فلسفة ابن عربي كدعوة خالدة تذكرنا بأن الوحدة الإنسانية لا تبنى على التشابه، بل على الاحتفاء بالاختلاف.
ابن عربي، ذلك العملاق الأندلسي الذي سبق عصره بقرون. قد استطاع أن يجعل من الحب نظرة شمولية للوجود بأكمله. ولعل ما يميز رؤيته أنه رأى في اختلافاتنا وتنوعنا جمالا فريداً، كأنه لوحة فنية متناغمة الألوان.
في أبياته الشهيرة يقول: «لقد صار قلبي قابلا كل صورة؛ فمرعى لغزلان ودير لرهبان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن. أدين بمنهاج الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب نهجي وإيماني».
ولعل هذه الكلمات تفتح أمامنا أفقا جديدًا لفهم العلاقات الإنسانية؛ فالتسامح لديه ليس مجرد قبول سطحي للآخر، بل هو احتفاء واحتضان لكل ما يمثله، ليصبح القلب موطنا لكل اختلاف وجسرًا بين كل فجوة، في تجربة إنسانية نادرة تجسد الحب كقيمة مطلقة تجمع كل روح في قالب واحد.
ولا تقتصر رؤيته للاحتفاء بالاختلاف على العلاقات بين البشر فقط، بل تمتد لتشمل كل ذرة في الكون من حولنا.
إن الحب، في فلسفته، هو نسيج روحي يربط الإنسان بكل ما في الوجود، من الطبيعة إلى الكون بأسره.
من هنا، يصبح السلام مع الذات والآخرين ضرورة تتخطى القيم التقليدية لتصل إلى توازن عميق مع الحياة نفسها. إن فلسفة «منهاج الحب» التي صاغها ابن عربي تتحدى الأطر المعتادة عن السلام، فهي لا تقف عند حدود غياب الصراع، بل ترسم لنا انسجاما يحقق سلاما متأصلا في جوهر الروح.
ألهمت هذه الفلسفة السامية العديد من المفكرين عبر العصور، حيث نجد صداها في رؤى متعددة للتعايش والتعددية.
نجد أن الفيلسوف الأمريكي جون رولز، في كتابه نظرية في العدالة، يعرف العدالة بأنها احترام للتنوع الإنساني وصون حقوق الجميع. كم أن التسامح، كما يراه رولز، يتجاوز مجرد القبول ليصبح تأكيدا لحق الآخر في الوجود بكرامة وحرية.
وهذا يتماشى بوضوح مع فكرة «منهاج الحب»، إذ يكون التسامح عمادًا لبناء مجتمع يحتضن الجميع بلا تمييز.
أما الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، فيرى في سياسات الاعتراف أن كل هوية فريدة تستحق التقدير والاحترام. ذلك أن الاعتراف عند تايلور ليس مجرد صمت، بل هو احترام حقيقي بحق كل فرد في التعبير عن ذاته.
إن هذه الرؤية، التي تنسجم مع فلسفة ابن عربي، تفتح آفاقا جديدة لتعزيز التماسك الاجتماعي عبر تكريم التنوع والاحتفاء بالفردية.
يشترك المفكر الهندي صاحب جائزة نوبل في الاقتصاد أمارتيا سن مع ابن عربي في رؤيتهما للعلاقة بين الفرد والمجتمع، حيث يؤكد سن أن الإنسان هو كيان متعدد الهويات؛ هذا التعدد هو مصدر غنى وعمق، وليس عامل ضعف أو تفرقة.
ومن خلال هذا الفهم، يتحول الاختلاف إلى قيمة إيجابية، ويفتح الباب لبناء روابط أعمق وأكثر أصالة بين البشر.
وفي تأمل عميق لهذه الأفكار، نجد أنفسنا مدفوعين نحو فهم أرحب للإنسانية، فلا تصبح الاختلافات سببا للفصل، بل تجسيدا لجمال التنوع.
ولعل ما نشهده في مملكة البحرين من تناغم مجتمعي وتعايش بين مختلف التوجهات والأفكار لهو خير دليل على هذا النسيج الإنساني المتماسك.
فمن خلال فلسفة ابن عربي، نرى انعكاسا لرؤية إنسانية تتجاوز الزمان والمكان، تبين لنا أن قبول الآخر ليس مجرد واجب أخلاقي، بل احتفاء بألوان الوجود البشري.
وربما يكون هذا المفهوم، في بساطته وعمقه، ما نحتاج إليه اليوم في عالمنا المعاصر. إن إحياء هذا الفكر قد يمهد الطريق نحو عالم أكثر سلاما، حيث يتسع القلب لكل صورة ومعنى، ليجمعنا في وحدة إنسانية تقدر الاختلاف وتحترم الخصوصية.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك