العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

لمحات مضيئة من تراثنا العربي في الاحتفاء بالتسامح والتنوع الثقافي والاجتماعي

بقلم: نبيلة رجب

الخميس ٣١ أكتوبر ٢٠٢٤ - 02:00

في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن‭ -‬وربما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭ -‬أصبح‭ ‬التنوع‭ ‬جزءًا‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية‭. ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬هذا‭ ‬التنوع‭ ‬الجميل،‭ ‬بات‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬قواسم‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الثقافات‭ ‬والديانات‭ ‬والأيديولوجيات‭ ‬أمرًا‭ ‬بالغ‭ ‬الأهمية‭. ‬

إن‭ ‬تعدد‭ ‬الأفكار‭ ‬والانتماءات‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬الاختلاف،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬مصدرًا‭ ‬للتكامل‭ ‬والتعايش‭. ‬هنا‭ ‬تبرز‭ ‬فلسفة‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬كدعوة‭ ‬خالدة‭ ‬تذكرنا‭ ‬بأن‭ ‬الوحدة‭ ‬الإنسانية‭ ‬لا‭ ‬تبنى‭ ‬على‭ ‬التشابه،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالاختلاف‭.‬

ابن‭ ‬عربي،‭ ‬ذلك‭ ‬العملاق‭ ‬الأندلسي‭ ‬الذي‭ ‬سبق‭ ‬عصره‭ ‬بقرون‭. ‬قد‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬نظرة‭ ‬شمولية‭ ‬للوجود‭ ‬بأكمله‭. ‬ولعل‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬رؤيته‭ ‬أنه‭ ‬رأى‭ ‬في‭ ‬اختلافاتنا‭ ‬وتنوعنا‭ ‬جمالا‭ ‬فريداً،‭ ‬كأنه‭ ‬لوحة‭ ‬فنية‭ ‬متناغمة‭ ‬الألوان‭. ‬

في‭ ‬أبياته‭ ‬الشهيرة‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬صار‭ ‬قلبي‭ ‬قابلا‭ ‬كل‭ ‬صورة؛‭ ‬فمرعى‭ ‬لغزلان‭ ‬ودير‭ ‬لرهبان‭ ‬وكعبة‭ ‬طائف‭ ‬وألواح‭ ‬توراة‭ ‬ومصحف‭ ‬قرآن‭. ‬أدين‭ ‬بمنهاج‭ ‬الحب‭ ‬أنى‭ ‬توجهت‭ ‬ركائبه،‭ ‬فالحب‭ ‬نهجي‭ ‬وإيماني‮»‬‭.‬

‭ ‬ولعل‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬تفتح‭ ‬أمامنا‭ ‬أفقا‭ ‬جديدًا‭ ‬لفهم‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية؛‭ ‬فالتسامح‭ ‬لديه‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬قبول‭ ‬سطحي‭ ‬للآخر،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬احتفاء‭ ‬واحتضان‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يمثله،‭ ‬ليصبح‭ ‬القلب‭ ‬موطنا‭ ‬لكل‭ ‬اختلاف‭ ‬وجسرًا‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬فجوة،‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬إنسانية‭ ‬نادرة‭ ‬تجسد‭ ‬الحب‭ ‬كقيمة‭ ‬مطلقة‭ ‬تجمع‭ ‬كل‭ ‬روح‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬واحد‭.‬

ولا‭ ‬تقتصر‭ ‬رؤيته‭ ‬للاحتفاء‭ ‬بالاختلاف‭ ‬على‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬تمتد‭ ‬لتشمل‭ ‬كل‭ ‬ذرة‭ ‬في‭ ‬الكون‭ ‬من‭ ‬حولنا‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬الحب،‭ ‬في‭ ‬فلسفته،‭ ‬هو‭ ‬نسيج‭ ‬روحي‭ ‬يربط‭ ‬الإنسان‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬من‭ ‬الطبيعة‭ ‬إلى‭ ‬الكون‭ ‬بأسره‭. ‬

من‭ ‬هنا،‭ ‬يصبح‭ ‬السلام‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬والآخرين‭ ‬ضرورة‭ ‬تتخطى‭ ‬القيم‭ ‬التقليدية‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬توازن‭ ‬عميق‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها‭. ‬إن‭ ‬فلسفة‭ ‬‮«‬منهاج‭ ‬الحب‮»‬‭ ‬التي‭ ‬صاغها‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬تتحدى‭ ‬الأطر‭ ‬المعتادة‭ ‬عن‭ ‬السلام،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬غياب‭ ‬الصراع،‭ ‬بل‭ ‬ترسم‭ ‬لنا‭ ‬انسجاما‭ ‬يحقق‭ ‬سلاما‭ ‬متأصلا‭ ‬في‭ ‬جوهر‭ ‬الروح‭.‬

ألهمت‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬السامية‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬عبر‭ ‬العصور،‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬صداها‭ ‬في‭ ‬رؤى‭ ‬متعددة‭ ‬للتعايش‭ ‬والتعددية‭.  ‬

‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الأمريكي‭ ‬جون‭ ‬رولز،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬نظرية‭ ‬في‭ ‬العدالة،‭ ‬يعرف‭ ‬العدالة‭ ‬بأنها‭ ‬احترام‭ ‬للتنوع‭ ‬الإنساني‭ ‬وصون‭ ‬حقوق‭ ‬الجميع‭. ‬كم‭ ‬أن‭ ‬التسامح،‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬رولز،‭ ‬يتجاوز‭ ‬مجرد‭ ‬القبول‭ ‬ليصبح‭ ‬تأكيدا‭ ‬لحق‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬بكرامة‭ ‬وحرية‭.‬

وهذا‭ ‬يتماشى‭ ‬بوضوح‭ ‬مع‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬منهاج‭ ‬الحب‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬يكون‭ ‬التسامح‭ ‬عمادًا‭ ‬لبناء‭ ‬مجتمع‭ ‬يحتضن‭ ‬الجميع‭ ‬بلا‭ ‬تمييز‭.‬

أما‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الكندي‭ ‬تشارلز‭ ‬تايلور،‭ ‬فيرى‭ ‬في‭ ‬سياسات‭ ‬الاعتراف‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هوية‭ ‬فريدة‭ ‬تستحق‭ ‬التقدير‭ ‬والاحترام‭.  ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الاعتراف‭ ‬عند‭ ‬تايلور‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬صمت،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬احترام‭ ‬حقيقي‭ ‬بحق‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭.‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية،‭ ‬التي‭ ‬تنسجم‭ ‬مع‭ ‬فلسفة‭ ‬ابن‭ ‬عربي،‭ ‬تفتح‭ ‬آفاقا‭ ‬جديدة‭ ‬لتعزيز‭ ‬التماسك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬عبر‭ ‬تكريم‭ ‬التنوع‭ ‬والاحتفاء‭ ‬بالفردية‭.‬

يشترك‭ ‬المفكر‭ ‬الهندي‭ ‬صاحب‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬أمارتيا‭ ‬سن‭ ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬في‭ ‬رؤيتهما‭ ‬للعلاقة‭ ‬بين‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع،‭ ‬حيث‭ ‬يؤكد‭ ‬سن‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬كيان‭ ‬متعدد‭ ‬الهويات؛‭ ‬هذا‭ ‬التعدد‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬غنى‭ ‬وعمق،‭ ‬وليس‭ ‬عامل‭ ‬ضعف‭ ‬أو‭ ‬تفرقة‭. ‬

ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الفهم،‭ ‬يتحول‭ ‬الاختلاف‭ ‬إلى‭ ‬قيمة‭ ‬إيجابية،‭ ‬ويفتح‭ ‬الباب‭ ‬لبناء‭ ‬روابط‭ ‬أعمق‭ ‬وأكثر‭ ‬أصالة‭ ‬بين‭ ‬البشر‭.‬

وفي‭ ‬تأمل‭ ‬عميق‭ ‬لهذه‭ ‬الأفكار،‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬مدفوعين‭ ‬نحو‭ ‬فهم‭ ‬أرحب‭ ‬للإنسانية،‭ ‬فلا‭ ‬تصبح‭ ‬الاختلافات‭ ‬سببا‭ ‬للفصل،‭ ‬بل‭ ‬تجسيدا‭ ‬لجمال‭ ‬التنوع‭. ‬

ولعل‭ ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين‭ ‬من‭ ‬تناغم‭ ‬مجتمعي‭ ‬وتعايش‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬التوجهات‭ ‬والأفكار‭ ‬لهو‭ ‬خير‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النسيج‭ ‬الإنساني‭ ‬المتماسك‭.‬

‭ ‬فمن‭ ‬خلال‭ ‬فلسفة‭ ‬ابن‭ ‬عربي،‭ ‬نرى‭ ‬انعكاسا‭ ‬لرؤية‭ ‬إنسانية‭ ‬تتجاوز‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬تبين‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬قبول‭ ‬الآخر‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬واجب‭ ‬أخلاقي،‭ ‬بل‭ ‬احتفاء‭ ‬بألوان‭ ‬الوجود‭ ‬البشري‭.‬

وربما‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬في‭ ‬بساطته‭ ‬وعمقه،‭ ‬ما‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭. ‬إن‭ ‬إحياء‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬قد‭ ‬يمهد‭ ‬الطريق‭ ‬نحو‭ ‬عالم‭ ‬أكثر‭ ‬سلاما،‭ ‬حيث‭ ‬يتسع‭ ‬القلب‭ ‬لكل‭ ‬صورة‭ ‬ومعنى،‭ ‬ليجمعنا‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬إنسانية‭ ‬تقدر‭ ‬الاختلاف‭ ‬وتحترم‭ ‬الخصوصية‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا