كان رد فعلي على فوز دونالد ترامب الأخير مختلفا تماما عما كان عليه ردي فعلي عندما تم انتخابه لأول مرة في عام 2016. ففي سنة 2016، كنت منزعجا للغاية بشأن الطريقة التي انتخبنا بها شخصا نرجسيا، كارها للنساء والأجانب، ومحرضا على العنف. لقد كنت قلقا ومتخوفا مما قد تنذر به رئاسته لمستقبلنا ولمستقبل الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد اختلف الأمر هذه السنة. ورغم أنني ما أزال أشعر بحزن عميق بشأن ما قد تعنيه عودة ترامب إلى البيت الأبيض بالنسبة إلى النساء والمهاجرين ومستقبل الرعاية الصحية وحقوق العمال والبيئة، إلا أن الغضب هو الذي سيطر علي.
لقد بلغ بي الغضب أشدة بسبب الحملات السياسية التي قام بها الديمقراطيون ومستشاروهم الذين تسببوا لنا بهذه الكارثة. لقد انتابني أيضا غضب كبير من انهيار الأحزاب السياسية كمنظمات نابضة بالحياة كانت ذات يوم تجمع الناس معاً، وتسهم في تمكينهم، وكانت تستجيب لاحتياجاتهم.
في الماضي، كان الانضمام إلى الحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري يعني شيئًا ما. كان هناك هيكل للحزب من المستوى المحلي إلى المستوى الوطني. كان الناس يشعرون بالانتماء وكانوا يرتادون الاجتماعات ويشعرون بفخر الانتماء إلى حزبهم.
لقد أصبح الأمر اليوم مختلفا كل الاختلاف. فبالنسبة إلى معظم الأمريكيين، أن تكون ديمقراطيًا أو جمهوريًا يعني أن تكون مدرجًا في القوائم التي تتلقى رسائل بريد إلكتروني أو رسائل نصية أو بريدا مباشرا أو مكالمات هاتفية أو رسائل وسائط اجتماعية مستهدفة، كما أن معظم هذه الرسائل تطلب التبرع بالمال. لا يوجد أي تنظيم، أو أي شعور بالانتماء، أو أي فرصة حقيقية لإسماع صوتك.
لا تنحصر مشكلتنا مع طبقة المستشارين السياسيين فقط في السلطة التي يمارسونها، بل إن مشكلتنا تكمن أيضا في الأحكام التي يصدرونها، وأمام من يتحملون المسؤولية في نهاية المطاف. فالأمر لا يتعلق بالأحزاب السياسية أو بالناخبين أنفسهم بقدر ما يتعلق بالمانحين الذين يدفعون مبالغ ضخمة.
إن الأحزاب، التي كانت تمثل الناخبين ذات يوم وتعمل على تمكينهم، أصبحت الآن أدوات لجمع تبرعات بمليارات الدولارات في كل دورة انتخابية.
تذهب هذه الدولارات إلى المجموعات الاستشارية التي تستخدمها لجمع المزيد من الأموال لدفع تكاليف الإعلانات، وإجراء استطلاعات الرأي لتشكيل الرسائل إما لتحديد مرشحيها والترويج لها أو لتحديد وتثبيط الدعم لخصومهم.
ولأنهم يسيطرون على مبالغ ضخمة من دولارات الحملات الانتخابية، فإن هؤلاء المستشارين هم الذين يضعون جداول أعمال الحملات. لقد حلت هذه المجموعات الاستشارية فعلياً محل الأحزاب باعتبارها القوى التي تحرك السياسة الأمريكية. فهذه الفئة من المستشارين هم وسطاء للوصول إلى السلطة وهم يعملون دون أي مساءلة.
إحدى النتائج الثانوية لهذا الوضع هي أن الناخبين أصبحوا أقل ارتباطاً بالأحزاب على نحو متزايد. لقد أصبحت الأحزاب نفسها كيانات أقل اهتماما بالعضوية لتتحول إلى أدوات لجمع التبرعات.
ولهذا السبب كان من السهل جدًا على دونالد ترامب أن يتولى قيادة الحزب الجمهوري، فيما أصبح الحزب الديمقراطي أسيرًا لكبار مانحيه ومستشاريه الذين ينفقون أموالهم ويؤثرون في أجندته وتوجهاته وبرامجه.
وقد تفاقمت هذه المشكلة بسبب ظهور ما يعرف باسم «لجان العمل السياسي الفائقة»، وهي لجان مستقلة يمكنها تلقي وإنفاق مساهمات غير منظمة من المليارديرات الذين، ومن خلال توظيف نفس المجموعات من المستشارين، يتمتعون الآن بنفوذ أكبر على العملية السياسية من الأحزاب نفسها.
أما المشكلة الأخرى فهي تتعلق بالحذر المفرط لهؤلاء المستشارين، وافتقارهم إلى سعة الخيال، بالإضافة إلى بعدهم عن التواصل مع الناخبين وتلمس احتياجاتهم. لقد انتقد مسؤول سابق في إدارة باراك أوباما ذات مرة ما أسماه «فقاعة السياسة الخارجية» التي وصفها بأنها مجموعة من الشخصيات التي خدمت في الإدارات السابقة.
وها هي هذه الشخصيات التي خدمت في الإدارات السابقة تملأ اليوم مراكز الأبحاث ومنابر التحليلات والتعليقات. إنهم بعيدون كل البعد عن هذا العالم المتغير، ومع ذلك فهم يقدمون نفس الأفكار – نوع من التفكير الجماعي للحكمة التقليدية– التي فشلت من قبل وسيكون مصيرها الفشل مرة أخرى.
وينطبق الشيء نفسه على فقاعة الاستشارات السياسية. فهؤلاء المستشارون بعيدون كل البعد عن جمهور الناخبين المتغير وليس لديهم ما يقدمونه سوى نفس الأفكار القديمة التي ربما تكون قد نجحت ذات يوم، ولكن، في ضوء التغييرات التي حدثت في جمهور الناخبين، محكوم عليها بالفشل اليوم وغدا.
على سبيل المثال، فشل أولئك الذين أداروا الحملات الديمقراطية هذا العام في تقدير انعدام الأمن الاقتصادي للناخبين من الطبقة العاملة البيضاء، وركزوا اهتمامهم بدلاً من ذلك على ما أسموه «تحالف أوباما» المؤلف من الناخبين الشباب وغير البيض، والنساء المتعلمات في الجامعات.
لقد رفضوا زيادة الضرائب على أغنى 1% من السكان، وتوفير الرعاية الصحية الشاملة، ورفع الحد الأدنى للأجور، باعتبارهم يساريين للغاية. فبدلاً من الاهتمام باحتياجات الناخبين من الطبقة العاملة في الولايات التي تمثل ساحة معركة رئيسية، قاموا بحملة المرشحة الديمقراطية للرئاسة كامالا هاريس بالتعاون مع عضوة الكونجرس الجمهورية السابقة ليز تشيني.
لقد ذهب في اعتقادهم أن ليز تشيني ستساعد في كسب تأييد الجمهوريين المعتدلين ونساء الضواحي، وهو ما لم تستطع فعله. لقد فشلوا أيضا في فهم تأثير الإبادة الجماعية في قطاع غزة ليس فقط على الناخبين الأمريكيين العرب، بل وأيضاً على المكونات الرئيسية في ائتلاف أوباما، وخاصة الناخبين الشباب والتقدميين وغير البيض.
وبعد أن أدرك الثغرات التي نجمت عن أخطاء الديمقراطيين، فقد احتضن ترامب الطبقة العاملة البيضاء التي وعدها بخلق وظائف جديدة، كما استغل شعورهم بالإهمال والتهميش وراح يهاجم المهاجرين الذين اتهمهم بأخذ الوظائف وجلب الجريمة إلى مدننا.
وبدلاً من الانفصال عن هذا النهج الفاشل، اعتنقته هاريس. لقد تراجعت عن سياساتها السابقة ذات الميول اليسارية التي تفضل الرعاية الصحية الشاملة ودعم الاقتصاد الأخضر.
وبدلاً من إشراك الناخبين البيض من الطبقة العاملة، فقد تجاهلتهم حملة كمالا هاريس إلى حد كبير، واختارت بدلاً من ذلك المشاركة في الحملة مع ليز تشيني. وبدلاً من الاجتماع مع الأمريكيين العرب، فقد تركت هذا المجال مفتوحاً على مصراعيه أمام دونالد ترامب لاستغلاله.
وبدلاً من استغلال الوقت القصير المتاح لها لتقديم نفسها إلى الدوائر الانتخابية الرئيسية من خلال الاجتماع شخصيًا مع القادة والفوز بحلفاء جدد، فقد اكتفت هاريس بالتجمعات الحاشدة للمؤيدين.
لقد كان فشل هؤلاء المستشارين ذريعا. لقد خسر الديمقراطيون البيت الأبيض ومجلسي النواب والشيوخ، كما حصلت هاريس على أصوات أقل بكثير مما فاز به جو بايدن في عام 2020. لقد خسرت الأصوات مع كل شريحة ديموغرافية تقريبًا، بما في ذلك اللاتينيين والآسيويين والنساء البيض، وبالطبع العرب.
وفي أعقاب ذلك، سوف يجد النقاد الديمقراطيون خطأً في الناخبين واختياراتهم، وليس في القرارات الرديئة التي اتخذوها بأنفسهم. سوف يدين النقاد الديمقراطيون الناخبين البيض ويعتبرونهم عنصريين أو كارهين للنساء.
كما أنهم سيتساءلون: كيف يمكن لذوي الأصول اللاتينية أن يصوتوا لترامب بعد ما قاله هو وأنصاره عنهم؟ وكيف يمكن للعرب والمسلمين أن ينسوا ما فعله بهم ترامب في ولايته الأولى؟
لقد تذكرت أحد الأقوال المنسوبة إلى القديس أغسطينوس – أنه في الصراع بين الكنيسة والعالم، فإن الكنيسة هي التي يجب أن تذهب إلى العالم، وليس العالم هو الذي يجب أن يذهب إلى الكنيسة. بمعنى آخر، لا تلوموا الناخبين. إذا كنتم تريدون الحصول على أصواتهم. يجب أن تكسبوا الناخبين لتكسبوا أصواتهم.
ولهذا السبب أنا غاضب من الحملة والحزب والمستشارين. لقد جمعوا أموالهم، واتخذوا خيارات سيئة. والآن سوف ندفع الثمن.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك