تزايدت التصريحات وارتفعت نبرتها وشدتها سنة بعد سنة حول عبثية اجتماعات الأمم المتحدة حول التغير المناخي المستمرة منذ نحو 32 عاماً، بدءا بقمة الأرض في عام 1992 التي تمخضت عنها الاتفاقية الإطارية حول التغير المناخي، وآخرها الاجتماع رقم (29) الذي عُقد في أذربيجان، وسيُعقد للمرة الثلاثين العام القادم في البرازيل.
فقد كانت التصريحات ونداءات الاستغاثة اليائسة تأتي أولاً من العلماء والباحثين في مجال المناخ وتأثير التغيرات المناخية وتداعياتها على كوكبنا وعلى المجتمع البشري، ثم انتقلت هذه التصريحات الشديدة إلى النشطاء والمهتمين بواقع التغير المناخ الميداني على الأجيال المتلاحقة، الحالية والمستقبلية، وبعدها تحولت إلى قادة دول العالم، وخاصة الدول الجزرية الفقيرة والمستضعفة التي أصابها اليأس والإحباط من جدوى هذه الاجتماعات لأنها تكتوي يومياً وتتضرر واقعياً من مردودات وانعكاسات التغير المناخي وسخونة الأرض وارتفاع مستوى سطح البحر، حتى أن بعض الدول مثل دولة «بابو غينيا الجديدة» قاطعت الاجتماع رقم (29) في باكو في نوفمبر 2024، وأصدرتْ بياناً من رئيس الوزراء ومن وزير الخارجية يقول فيه بأن هذه الاجتماعات مضيعة للوقت وتدور في دائرة مغلقة من دون اتخاذ قرارات مؤثرة وقوية تحمي كوكبنا من الانهيار كلياً وتدعم مالياً وتقنياً الدول الفقيرة الشديدة الضرر والمعاناة لمواجهة هذا التغير المناخي.
واليوم نقرأ خطاباً مفتوحاً من مجموعة من المسؤولين السابقين في الأمم المتحدة ومن بعض رؤساء الدول وعلماء المناخ، حيث نشرت هذه المجموعة الخطاب في 15 نوفمبر 2024 تزامناً مع انعقاد اجتماع المناخ رقم (29) في باكو في الفترة من 11 إلى 22 نوفمبر 2024. وقد تكونت المجموعة من عدة شخصيات عامة معروفة مثل الأمين العام السابق للأمم المتحدة «بان كي مون»، والرئيسة الإيرلندية السابقة «ماري روبينسون»، وهي الرئيس الأممي السابق للمناخ.
وفي هذا الخطاب أبدتْ المجموعة امتعاضها وعدم رضاها كليا من النتائج التي تتمخض عن هذه الاجتماعات السنوية التي وصلت إلى 29 اجتماعاً، وأشارت إلى أن هذه الاجتماعات أصبحت لا جدوى منها ولا فائدة كبيرة وملموسة ترجى من عقدها، فهي لم تحقق أيًّا من الأهداف الرئيسة التي وُضعت منذ أكثر من 32 عاماً في ريو دي جانيرو في البرازيل. فالنتائج البسيطة والسطحية التي تتمخض عنها لا تواكب الواقع الميداني للتغيرات المناخية، ولا تلاحق سرعة سخونة الأرض وارتفاع حرارتها طوال العقود الماضية، ولم تستطع مواجهة التحديات العظيمة التي نجمت عن التغير المناخي من ارتفاع درجة حرارة كوكبنا، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة مياه البحر، وما ينجم عن كل هذه التداعيات من زيادة واتساع رقعة الكوارث المناخية التي تضرب مناطق واسعة من كوكبنا، بل وفي تقديري فإن عقد هذه الاجتماعات في حد ذاتها يعد جزءاً من المشكلة وليس من الحل، فحركة عشرات الآلاف من الوفود المشاركة في الاجتماعات السنوية وانتقالهم من دولة إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى باستخدام الطائرات، والسيارات، والقطارات، تنبعث عنها أحجام كبيرة من الغازات المتهمة بوقوع التغير المناخي، وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون من حرق الوقود الأحفوري.
فقد أكدت المجموعة في خطابها: «انه من الواضح الآن أن اجتماعات الدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي لم تعد صالحة للأهداف التي وُضعت لتحقيقها، فنحن نحتاج إلى التحول من التفاوض إلى التنفيذ». أي بعبارة أخرى مباشرة، وغير دبلوماسية، وغير لطيفة فإن هذه الاجتماعات أصبحت عبثية، ولا فائدة منها، ولا جدوى من تنظيمها سنوياً، فهي لا تحقق الأهداف التي تجتمع الدول من أجل تحقيقها. كذلك جاء في الخطاب بأن: «اجتماعات التغير المناخي يجب أن تُعقد في الدول التي تبدي دعماً لتنفيذ السياسات المناخية، ولها تشريعات صارمة حول استخدام الوقود الأحفوري، كما إننا نحتاج إلى وضع معايير صارمة لاستبعاد الدول التي لا تدعم التخلص أو التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري. فالدول المضيفة يجب أن تقدم ما يثبت عزمها في تحقيق أهداف اتفاقية باريس». كما أكد «آل جور» نائب الرئيس الأمريكي الأسبق على مضمون هذا الخطاب حيث قال بأن: «على المجتمع الدولي تنظيم طريقة أكثر فاعلية لهذه الاجتماعات».
وهناك عدة أسباب لهذا التشاؤم والإحباط من فاعلية هذه الاجتماعات المناخية الدولية السنوية، ومن أهمها فشل دول العالم في خفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة، أو غازات الاحتباس الحراري المتهمة بالتغير المناخي وسخونة الأرض. فبدلاً من أن تنخفض انبعاثات الدول لهذه الغازات بشكلٍ سنوي، وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون، فإن هذه الانبعاثات في ارتفاع مطرد بشكلٍ عام؛ أي أن الدول لم تلتزم ببنود الاتفاقيات والتفاهمات التي من بينها أن تضع كل دولة حدوداً معينة تتعهد بها لخفض نسبة الانبعاث بشكلٍ سنوي. فمستوى انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون على المستوى الدولي ضرب رقماً قياسياً جديداً في عام 2024، حسب التقرير المنشور في 15 نوفمبر 2024 من (Global Carbon Budget). وهذا التقرير قدَّر حجم غاز ثاني أكسيد الكربون الإجمالي المنطلق إلى الهواء الجوي بنحو 41.6 بليون طن في عام 2024، أي بزيادة قدرها قرابة 1% مقارنة بعام 2023، والذي قُدر بنحو 40.6 بليون طن. وهذا الارتفاع المشهود في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون انعكس مباشرة على سخونة كوكبنا، وبالتالي تعارض مع تفاهمات باريس لعام 2015، والذي كان من أهم مخرجاتها وقراراتها التي صفق الجميع لها واعتبروها انجازاً غير مسبوق، هو أن تلتزم دول العالم وتتعهد بخفض انبعاثاتها بشكلٍ طوعي وبنسب محددة بهدف منع ارتفاع درجة حرارة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية عن مستوى ما قبل الثورة الصناعية (1850 إلى 1900). فبناءً على الدراسة المنشورة في 11 نوفمبر 2024 في مجلة (Nature Geoscience) فإن حرارة الأرض في عام 2023 ارتفعت قرابة 1.49 درجة مئوية أعلى من مستويات ما قبل الثورة الصناعية، واليوم حتماً ستكون نسبة السخونة أعلى، وهو ما يعني فشل آخر لتنفيذ ما توصل إليه المجتمعون أنفسهم في باريس وعدم الالتزام بالقرارات.
وانطلاقاً مما سبق لا بد من المجتمع الدولي، ممثلاً في منظمات الأمم المتحدة المعنية التفكير في آلية إبداعية جديدة ذات جدوى وفاعلية أشد، واقتراح أداة صارمة تضمن تنفيذ القرارات التي تُتخذ في هذه الاجتماعات ومحاسبة أية دولة لا تُفعِّل هذه القرارات، حتى لا تتحول هذه الاجتماعات إلى رحلات سياحية سنوية مجانية لوفود الدول المشاركة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك