على مدار العقدين والنصف الأول من القرن الحادي والعشرين، ومع تراجع نفوذ بعض القوى الكبرى في النظام الغربي وبقية العالم، واستخدام القوة المباشرة بديلاً عن الدبلوماسية؛ أشار «جوناثان ماسترز»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، إلى أن «العقوبات الاقتصادية»، أصبحت «الأداة المفضلة» لصانعي السياسات الغربيين، التي تأتي كاستجابة لمجموعة واسعة من التحديات الجيوسياسية، والتي تتنوع بين المنافسة الصناعية، والنزاعات المسلحة، وانتهاكات حقوق الإنسان، ومنع انتشار الأسلحة النووية، ومحاربة الإرهاب.
وحول السبب الرئيسي لاستخدام هذه السياسات؛ أوضح «ماسترز»، أنه «محاولة الحكومات والمنظمات المتعددة الجنسيات لتغيير القرارات الاستراتيجية للجهات الفاعلة، سواء كانت دولًا أو منظمات غير حكومية»، والتي تهدد مصالح هذه الحكومات، أو تنتهك المعايير الدولية للسلوك. وتتخذ هذه الإجراءات عادة شكل تقييد وصول الدولة إلى الأسواق الدولية التي يهيمن عليها الغرب، في مجالات التجارة والخدمات المصرفية والمالية، فضلاً عن تجميد الأصول، وحظر السفر على المنظمات والأفراد المستهدفين.
وأشار «مركز أبحاث السياسات الاقتصادية»، إلى أن العقوبات المفروضة على «روسيا»، في أعقاب حربها ضد أوكرانيا، كانت «غير مسبوقة» من حيث حجمها وتعقيدها. ورغم ذلك، اتبعت نفس النمط الذي تم تطبيقه على دول أخرى، مثل (إيران، وكوريا الشمالية، وكوبا، والعراق)، إذ لم تؤدِ إلى تحقيق الهدف المرجو من تغيير سلوك هذه الدول؛ بل إنها غالباً ما أدت إلى نتائج عكسية، حيث أصبحت تلك الدول أكثر عدوانية تجاه الغرب. وأشار «ماكس بوت»، في صحيفة «واشنطن بوست»، إلى أن «الولايات المتحدة»، أصبحت «معتادة» على استخدام العقوبات، إلى حد بات يضر بمصالحها الذاتية، ومصالح حلفائها وشركائها حول العالم.
وفي ندوة عُقدت في «كلية لندن للاقتصاد»، يوم 22 أكتوبر، لمناقشة كتاب «كيف تعمل العقوبات.. إيران وتأثير الحرب الاقتصادية»، تأليف «فالي نصر»، و«نرجس باجوغلي»، وحضرتها «سنام فاكيل»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»؛ تم التطرق الى العديد من المشاكل في نظام العقوبات الاقتصادية الذي تقوده «واشنطن»، ضد دول العالم، ومع إيران كدراسة حالة.
وفي البداية، تم التأكيد على مدى تحول العقوبات الاقتصادية إلى سلاح مفضل للحكومات الغربية -خاصة الولايات المتحدة- لمعاقبة وزعزعة استقرار منافسيها العالميين. وخلال العقدين الماضيين، زاد نظام العقوبات الأمريكية بنحو 900%، حيث فرضت واشنطن عقوبات ضد ما يقرب من 12.000 منظمة وفرد بحلول 2022؛ ما أثر على ما يقرب من ثلث دول العالم. وأوضح «نصر»، أن وزارة الخزانة الأمريكية، دأبت على استخدام العقوبات كشكل متعمد من أشكال «الحرب الاقتصادية»، ضد الدول التي لا تتوافق مع مصالحها الجيوسياسية أو الاقتصادية. وأضاف «بوت»، أنها «تستخدم ضوابط التصدير، والتعريفات الجمركية، ومراجعات الاستثمار الأجنبي؛ كشكل فعلي للعقوبات التجارية»، بما في ذلك ضد حلفائها وشركائها.
في هذا السياق، أكد «نصر»، و«باجوغلي»، أن العقوبات أثبتت مرارا فشلها في تغيير سلوك الدول المستهدفة على النحو المقصود. وفي حالة أعداء «الولايات المتحدة»، فقد جعلتهم في الواقع «أكثر عدائية، وأشد استبدادًا، وأقل عرضة للخضوع للضغوط السياسية والاقتصادية الغربية». وفي مقال في مجلة «إيكونوميست»، بعنوان «النتائج العكسية.. كيف تعيد العقوبات تشكيل العالم ضد مصالح واشنطن»؛ رأت «أجاث ديماريس»، أنه «إذا لم تسفر العقوبات عن نتائج في غضون عامين، فإن الدولة المستهدفة عادة لا تنوي الاستسلام».
ودعمًا لهذا التقييم، خلصت دراسة أجراها معهد «بيترسون للاقتصاد الدولي»، والتي فحصت العقوبات الأمريكية أحادية الجانب بين عامي 1970 و1997، إلى عدم تحقيقها أهدافها المعلنة سوى في 13% من الحالات، فيما كلفت الاقتصاد الأمريكي ما قيمته 19 مليار دولار سنويًا. وعلى الرغم من هذا الأداء الضعيف، استشهد «بوت»، بـ«زيادة كلفة العقوبات في السنوات التي تلت ذلك مع توسع استخدامها»، ولكن كما كان متوقعًا «لم تصبح أكثر نجاحًا».
من جانبها، أوضحت «باجوغلي»، أن العقوبات الاقتصادية الواسعة، التي تفرضها «الولايات المتحدة»، وحلفاؤها على إيران، وكوبا، وفنزويلا، وروسيا وغيرها، تهدف إلى إضعاف أنظمة هذه البلدان، لكن «بوت»، رأى كيف كان حجب الشركات عن السوق الدولية -كما في حالة «الضغط الأقصى» على إيران التي فرضتها إدارة ترامب - له تأثير في تدمير القطاع العام، لصالح الشركات والمؤسسات المتحالفة بالفعل مع النظام، والتي كانت على استعداد لقبول المخاطر المرتبطة بالتعامل في السوق السوداء العالمية.
وعليه، أكدت «باجوغلي»، و«نصر»، رأى «بوت»، السابق بأن القادة والمسؤولين في البلدان الخاضعة للعقوبات «عادة ما يكونون معزولين عن تأثير العقوبات الأمريكية، بينما يتضرر الناس العاديون، موضحين كيف أضحى الجيش الإيراني أكثر ثراءً؛ بسبب العقوبات الأمريكية، بينما عانى الشعب من التضخم المرتفع، والاقتصاد غير المستدام.
وفيما يخص العقوبات الأمريكية ضد روسيا. فبعد أن تم حرمانها من الوصول إلى معظم الأسواق الدولية، بما في ذلك النظام المصرفي العالمي، والمعاملات المالية بالدولار، وتجميد أصول المسؤولين والشركات الكبرى ومنعهم من السفر؛ توقع «صندوق النقد الدولي»، أن يتعرض اقتصادها لانخفاض بنسبة 15%. ومع ذلك، كان الانخفاض الفعلي في ذلك العام 3% فقط. وبعد عامين، توقع «الصندوق»، أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي لها في عام 2024 بنسبة 3.6%، وهو معدل أعلى من معدلات النمو في المملكة المتحدة (1.1%)، وفرنسا (2.8%).
وفي ظل تعرض العديد من الدول لعقوبات اقتصادية مستمرة، فإنها تقاوم هذه الإجراءات، التي غالباً ما تؤثر بشكل غير متكافئ على الطبقات الفقيرة، بدلاً من النخب. وأشار «جيسون بوردوف»، من «جامعة كولومبيا» إلى أن الاعتماد المفرط على العقوبات الاقتصادية من قبل الحكومات الغربية يشبه المثل القائل: «عندما تكون لديك مطرقة، يبدو كل شيء كأنه مسمار»، حيث أصبحت العقوبات الخيار المفضل لصانعي السياسات الغربيين عندما تكون البدائل المتاحة محدودة أو غير فعالة.
من جانبه، أوضح «نصر»، أن عدد العقوبات المفروضة على إيران من قبل «واشنطن»، وحلفائها، «مبالغ فيه إلى حد كبير»، مؤكدا أنها «مجرد وسيلة غربية لإظهار أنها تضغط بشكل أكبر». وردًا على إطلاق «طهران»، صواريخ باليستية ضد إسرائيل في سبتمبر 2024، أعلنت لندن، وباريس، وبرلين، وروما، إلغاء رحلات الخطوط الجوية الإيرانية، المتجهة إلى تلك الوجهات الأوروبية، وتجميد أصول ومنع سفر ثلاثة أفراد من وزارة الدفاع الإيرانية والحرس الثوري إليها. ومع تصنيف «الخزانة الأمريكية»، مؤخرًا لـ17 سفينة إيرانية كـ«ممتلكات محظورة»؛ بسبب تهريبها لصادرات النفط، لن يكون لهذه العقوبات أي تأثير إضافي على تصرفات طهران، بل ستعزز مناهضتها للعقوبات.
علاوة على ذلك، تفتقر السياسة الأمريكية إلى آليات فعالة لتخفيف العقوبات، بما يعني أنها غالباً ما تكون مفتوحة الأجل من دون تحديد واضح لشروط الرفع. ويُبرز هذا الوضع صعوبة تقديم تخفيف للعقوبات كحافز للتعاون، خاصة في ظل الضغوط السياسية الداخلية. وحتى لو التزمت «إيران»، بشروط الاتفاق النووي مثلا، فإن مشاكل أخرى، مثل حقوق الإنسان، وبرنامج الصواريخ الباليستية، ودعم الفصائل المسلحة، تُستخدم كتبرير لاستمرار العقوبات.
وتثير حقيقة أن العقوبات الغربية قد توسعت ضد الدول غير الملتزمة بـ«النظام الدولي القائم على القواعد»؛ تساؤلات حول عدم تطبيقها على «إسرائيل»، التي تم توثيق انتهاكاتها ضد الفلسطينيين من قبل منظمات حقوق الإنسان، فيما تواجه اتهامات بالإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية من قبل «محكمة العدل الدولية». ومع ذلك، لم تفرض أمريكا، وبريطانيا، والاتحاد الأوروبي، عقوبات إلا على عدد محدود جدًا من المستوطنين الإسرائيليين المتطرفين. وبينما أعلن وزير الخارجية البريطاني السابق اللورد «كاميرون»، عن خطط لفرض عقوبات على وزراء الحكومة الإسرائيلية والمستوطنين، مثل «إيتمار بن غفير»، و«سموتريتش»، لكن لم تُتخذ أي إجراءات ملموسة بهذا الشأن.
ومع ذلك، أشار «نصر»، إلى أن العقوبات المفروضة على المستوطنين الإسرائيليين، «غير فعالة»، في التأثير على حكومة نتنياهو اليمينية؛ مما يعكس كيف تستخدم الدول الغربية العقوبات كوسيلة رمزية، للإيحاء باتخاذها خطوات ضد انتهاكات القانون الدولي، مع افتقارها إلى الفاعلية الحقيقية في تغيير سلوكيات الأطراف المعنية، مما يعكس فجوة بين الأهداف المعلنة، والسياسات المتبعة. كما خلص «بوت»، إلى أن معظم العقوبات «تفتقر إلى وضوح الأهداف»، وتستمر فترات طويلة من دون أن تحظى بدعم دولي كبير». ويتفق هذا مع ما أشار إليه «نصر»، و«باجوغلي»، و«فاكيل»، من أن النهج الخاطئ الذي تتبعه الدول الغربية في فرض الحرب الاقتصادية ضد خصومها، لا يحقق أهدافها المرجوة.
كما أن حقيقة أن مثل هذه الإجراءات تؤثر سلبًا أيضًا على الاقتصادات الغربية وشركائهم عبر العالم -بما في ذلك في الشرق الأوسط- لا يمكن تجاهلها أيضًا. وأعاد عقد «قمة البريكس»، السادسة عشرة في روسيا نهاية أكتوبر 2024، تأكيد ذلك، بالنظر إلى كيفية تعاون الدول خارج الدائرة الاقتصادية الغربية -العديد منها تحت العقوبات الأمريكية- لتأسيس نظام مالي خاص بها، يتم من خلاله التهرب بنجاح من العقوبات الخارجية.
على العموم، من خلال الاستمرار في فرض عقوبات اقتصادية صارمة ضد خصومها، لا تفشل «الولايات المتحدة»، وحلفاؤها في تغيير سلوك هذه الدول فحسب، بل تضر أيضًا بالأعضاء الأكثر فقراً في هذه المجتمعات بشكل غير متناسب. كما أن هذه السياسات تعرقل أي إمكانية لمجهودات دبلوماسية مستقبلية. كما أنها تؤدي أيضًا إلى تقويض «النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي»، لواشنطن من خلال تقليل الأهمية العالمية لقطاعاتها المصرفية، والخدمات المالية الدولية. ويعكس هذا التوجه العواقب التي يمكن أن تترتب على الاعتماد المفرط على العقوبات كأداة للضغط.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك