شهدت الساحة الدولية حدثين مهمين يعكسان التباين الجيوسياسي بين كتلتين عالميتين. ففي «واشنطن»، انعقدت الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين في 21 أكتوبر، والتي تركز على معالجة قضايا الديون العالمية والاستقرار الاقتصادي. بينما بدأت في «قازان» الروسية قمة مجموعة «البريكس» بعد يوم واحد، والتي تسعى إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بين دولها وتحدي الهيمنة الغربية على النظام المالي الدولي.
وفي مجلة «فورين بوليسي»، وصف «كيث جونسون»، قمة «البريكس، بأنها «مجموعة متباينة من البلدان»، التي «حولت نفسها إلى قوى ثورية عالمية»، حيث لا تقتصر أجندة مؤسسيها (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا)، على إضفاء الطابع الرسمي على دمج الإمارات، ومصر، وإثيوبيا، وإيران كأعضاء جدد، بل أيضًا الاستمرار في «التوصل إلى بدائل قابلة للتطبيق للهيمنة الاقتصادية الغربية». وعلى النقيض من تزايد عدد أعضائها ورسالتها الموحدة لتحدي هيمنة الغرب؛ أوضح «فيليب إنمان»، من صحيفة «الجارديان»، كيف تركز مناقشات «صندوق النقد والبنك الدوليين» على ضرورة خفض الديون، بما في ذلك لوم الاقتصادات الغربية الكبرى للسماح ببلوغ ديونها العامة 100% من الدخل الوطني السنوي.
وفي تقييمها للأحداث، أشارت صحيفة «فاينانشال تايمز»، إلى أن توقيتات وأجندات التجمعين تسلط الضوء على «ضعف السلطة العالمية» لصندوق النقد والبنك الدوليين، حيث يتجه مركز الثقل الاقتصادي، بعيدًا عن الولايات المتحدة وأوروبا، نحو الصين والهند، على الرغم من تأكيد «جونسون»، أن «السؤال الأهم» للقمة السادسة عشرة للبريكس، لا يزال قائما حول قدرتها على تشكيل بديل فعلي للنظام الدولي الغربي، خاصة مع تنوع أهداف أعضائها.
وتشير التقارير الغربية، إلى أن المجموعة تعكس نوايا الدول خارج المؤسسة الاقتصادية الغربية بعدم اتباع المطالب الجيوسياسية للولايات المتحدة وأوروبا. ويضيف «كريس ويفر»، من شركة «ماكرو أدفايزوري»، أن لها رسالة أخرى تتمحور حول أن «محاولات عزل روسيا قد فشلت، وأنها تقاوم العقوبات ضدها. ومن ثمّ، تتمثل أهدافها في تقليص الاعتماد المستمر لاقتصاداتها على المؤسسات المالية الغربية، بما في ذلك نظام المدفوعات الدولي «سويفت»، وسيادة الدولار الأمريكي في التجارة الدولية. وأضاف «ويفر»، أنه بما أن العديد من المشاكل التي تواجهها «مرتبطة بالتجارة والمدفوعات عبر الحدود»؛ فإنها تسعى إلى تشجيع «إنشاء آلية تجارية بديلة، ونظام تسوية عبر الحدود، لا يشمل الدولار، أو اليورو، أو أي من عملات مجموعة السبع»، وذلك للتهرب من العقوبات الغربية.
وكما ذكرت «أسلي أيدنتاسباس»، من مؤسسة «بروكينجز»، فإن «الصين»، باتت تمتلك بديلًا لنظام الدفع «سويفت»، بينما تعيد دول، مثل «البرازيل»، هيكلة احتياطياتها نحو الذهب. ومع «شيوع مبادلات العملات، مقابل صفقات الطاقة» أيضًا؛ فإن مثل هذه التدابير تعكس الخطوات المطروحة نحو «استقلال مالي أكبر عن الغرب».
ومع ذلك، يبقى السؤال حول مدى قدرة البريكس على اتخاذ مواقف سياسية صلبة، «قائمًا»، خاصة مع تنوع أجندات الأعضاء الجدد، حيث تضم حوالي 45% من سكان العالم، و28% من الاقتصاد العالمي، واقتصاداتها الجماعية 28.6 تريليون دولار؛ مما يجعل التنسيق بينها تحديًا مطروحا.
وأشار «جونسون»، إلى أن هذه «المجموعة المتنوعة»، تضم دولاً ذات خلفيات وأيديولوجيات متباينة، مثل «قوة عظمى ماركسية-لينينية»، بجانب «أكبر ديمقراطية في العالم»، بالإضافة إلى دول «تحت المظلة الأمنية الأمريكية»، وأخرى تواجه عقوبات اقتصادية مشددة من واشنطن وحلفائها. ورغم هذه التباينات، فإن إنشاء «بنك التنمية الجديد»، عام 2015، سمح لأعضائها «بنسج روابط غير واضحة، لكنها حيوية»، من خلال اجتماعات دورية متوسطة المستوى؛ ما أدى إلى تعزيز التعاون التجاري والاستثماري والدبلوماسي. ومع ذلك، يشير «جيم أونيل»، من مصرف «جولدمان ساكس»، إلى أن تحقيق التوافق حول القضايا الجيوسياسية والاقتصادية الرئيسية، لا يزال «تحدياً مستمراً»، خاصة بين الصين والهند.
وفي الوقت الحالي، يشير المراقبون إلى أن «البريكس»، تُظهر أهمية متزايدة في الساحة الاقتصادية العالمية، مع وجود عدد من المرشحين المحتملين للانضمام إليها. وأشار «روبرت غرين»، من مؤسسة «كارنيجي للسلام الدولي»، إلى أنه «من السهل» على الأعضاء الشكوى من «هيمنة الاقتصادات الغربية»، لكن من «الصعب تصور» وضع حلول قابلة للتحقيق. وأوضح «جونسون»، أنها تُعتبر «خليطًا غير متماسك» من الأنظمة السياسية والاقتصادية؛ ما يجعل تقدير الاستياء من هيمنة الغرب صعبًا.
بالإضافة إلى ذلك، يرى «جيفري فيلتمن»، من «معهد بروكينغز»، أن قمة 2024، «تركز أكثر على شكل المواجهة وليس جوهرها»، حيث تكتفي «بالتظاهر»، بدلاً من إظهار قدرتها الحقيقية على تحدي القيادة الاقتصادية الدولية للغرب. ومع ذلك، ورغم أن «أيدنتاسباس»، اتفقت على أن البريكس ليست «كتلة متماسكة»، إلا أنها أكدت أن لديها «رسالة قوية» تتعلق برغبتها في نظام عالمي بديل، وهي الرسالة التي تحظى بقبول لدى الدول النامية؛ خاصة أنها «تأتي من اقتصادات كبيرة».
وفيما يتعلق باجتماعات «صندوق النقد والبنك الدوليين»، فقد وثق «المجلس الأطلسي»، كيف يسيطر على أجندتهما «تنسيق السياسات لضمان استقرار الاقتصاد العالمي»، مع تباطؤ معدلات التضخم، إلى جانب إجراءات «دعم الدول ذات الدخل المنخفض في أزمات الديون»، وتحسين «الدعم المالي للعمل المناخي».
وفي وقت يواجه فيه ما يقرب من 80 دولة حول العالم خطر أو معاناة من أزمات ديون؛ أشار «أندريس أراوز»، و«إيفانا لالوفيتش»، من «مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسات»، إلى أن صندوق النقد الدولي، يظل «حاسمًا لجعل تخفيف الديون ممكنًا على المدى القصير». ومع ذلك، فإن تحذير «البنك الدولي»، من أن الحد من الفقر العالمي قد «توقف تقريبًا»، وإن 7.3% من السكان في العالم من المتوقع أن يعيشوا في فقر مدقع بنهاية العقد الحالي، يُضعف مصداقيتهما حول التنمية والنمو الاقتصادي.
وحول التحديات الحالية التي تواجه المؤسستين الماليتين الدوليتين؛ أوضح «أراوز»، أن «الصندوق الدولي»، قد انحرف عن دوره الأصلي الذي كان يرتكز على «مساعدة الدول المحتاجة»، ليصبح فعليًا في طليعة «مجموعة الدائنين»، و«الحارس» للمصالح المالية للمقرضين الدوليين، موضحا أن العديد من الدول التي تلجأ إليه للحصول على قروض، تواجه «رسومًا إضافية»، تجبرها على دفع «معدلات فائدة أعلى بكثير من المعلن». ورغم الضغوط التي مارسها اقتصاديون عليه لإصلاح هذه الرسوم، فإن تلك التعديلات «لم تكن كافية»، ما يعني أن الدول المثقلة بالديون لا تزال تتحمل عبئًا ماليًا كبيرًا، يشكل عائقًا أمام تحقيق التنمية المستدامة.
أما بالنسبة إلى البنك الدولي، فقد رأى «بول كولير»، من «جامعة أكسفورد»، أنه «فشل في مهامه، في ضوء زيادة الفقر العالمي –الذي يُقاس بعدد الأشخاص الذين يعيشون بأقل من 2.15 دولار في اليوم– بشكل مستمر»، مشيرًا إلى أن خياره السابق كان متوجها نحو «تحقيق التنمية الاقتصادية، وتقليل الفجوة في مستويات الدخل»؛ لكنه الآن «يحتاج إلى إعادة هيكلة» لاستعادة مصداقيته الدولية.
وفيما يخص هاتين المنظمتين، أوضحت صحيفة «فاينانشال تايمز»، أن هيمنة قوى التصويت فيهما ما زالت تميل لصالح الغرب، مما يضعف مصداقيتهما كمنظمات تدعي تمثيل الصوت العالمي بشكل عادل. ومع ذلك، أشارت إلى أنهما أصبحتا حاليا أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ بسبب الضغوط العالمية المتزايدة التي تواجههما، مشيرة إلى الدور الحاسم للتعاون العالمي لضمان نجاح جهود تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وضرورة «تكيف» المنظمتين مع الأوضاع الاقتصادية الحالية المتدهورة، حيث لا توجد أي مؤسسة أخرى تستطيع منافستهما من حيث رأس المال والخبرة والدعم على المستوى العالمي.
على العموم، يمكن القول إن الأحداث الجيوسياسية والاقتصادية التي تعيشها الساحة العالمية تعكس «تحولًا ملحوظًا»، في موازين القوى الدولية. ففي حين تسعى «البريكس»، إلى إنشاء نظام مالي عالمي بديل عن الهيمنة الغربية، لا تزال المؤسسات المالية التقليدية تكافح لمواجهة تحديات الديون العالمية والاستقرار الاقتصادي. وعليه، يبقى السؤال المهم حول مدى قدرة «بريكس»، على تحقيق هذه الطموحات، فيما تظل هذه المؤسسات «محورية»، لكن عليها التكيف مع المتغيرات العالمية لضمان استمرارية تأثيرها في الساحة الدولية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك