مع أهمية الثورة التكنولوجية الحديثة بما تتيحه من فرص هائلة في كل المجالات فإنها في الوقت ذاته فرضت تحديات عديدة ليس فقط على مستوى تعاملات الأفراد ولكن بشكل يطال الأمن الوطني للدول ولذا فإن المعضلة الأساسية التي تواجه الدول في الوقت الراهن هي كيفية الاستفادة من تلك التقنيات وفي الوقت ذاته تجنب مخاطرها والتي أضحت تصنف في مرتبة متقدمة في قائمة المخاطر العالمية وتعد معضلة لأسباب عديدة منها إنها تدور في فضاء غير ملموس بعيداً عن الأرض والجو والبحر والفضاء التقليدي، فضلاً عن أنها أتاحت للجماعات دون الدول الولوج إلى ساحة ذلك الصراع وهو ما تجلى في توظيف تلك الجماعات للتكنولوجيا على نحو سيء استهدف البنى التحتية لعديد من الدول حتى العظمى منها، فالولايات المتحدة شهدت هجمات عديدة كان أبرزها هجومين استهدف الأول شركة عملاقة لتكنولوجيا المعلومات والثاني أجهزة عمل خط أنابيب حيوي للنفط وذلك على سبيل المثال لا الحصر، وتعكس الأرقام خطورة ذلك التهديد ومنها أن تكلفة تلك الهجمات عالمياً سوف تبلغ في عام 2025 حوالي 10,5 تريليونات دولار مقارنة بـ3 تريليونات عام 2015.
ومع التسليم بأن تلك المخاطر أصبحت هاجساً لدول العالم كافة -المتقدم منها والنامي -فإن التساؤل عن آليات المواجهة وهل هي تقنية أم أمنية؟ بمعنى آخر ما استراتيجيات الدول لمواجهة تلك المخاطر؟، واقع الأمر أن العديد من الدول أصدرت استراتيجيات للأمن السيبراني، والاستراتيجية بشكل مختصر ليست خطة عمل ولكنها رؤية شاملة للتحدي ومخاطره والإمكانات المتاحة لدى الدولة وكيفية توظيفها على نحو أمثل لمواجهة ذلك التحدي، كما أن الاستراتيجيات بها مرونة تتيح لصانع القرار التعامل في أوقات إدارة الأزمات، من ناحية ثانية حرصت بعض الدول على اعتبار تلك القضية ضمن الأمن الوطني سواء للدول أو المنظمات، ففي اليابان تم تأسيس المركز الوطني للجاهزية الإلكترونية ويتبع رئيس الوزراء بشكل مباشر ويضم خمس وزارات هي الاتصالات والخارجية والاقتصاد والداخلية والدفاع، ومسؤولية ذلك المركز وضع الاستراتيجيات السيبرانية والإشراف على تنفيذها، وعلى صعيد المنظمات إعلان حلف شمال الأطلسي «الناتو» في عام 2021 اعتبار الهجمات السيبرانية ضمن مضمون المادة الخامسة من ميثاق الحلف والتي تعتبر أن الهجوم على أي دولة بالحلف يعد هجوماً على الحلف بأكمله بما يستوجب الرد، على الرغم من حدوث هجومين لاحقين لذلك القرار على عضوين في الحلف وهما جمهورية الجبل الأسود وليتوانيا ولم يكن هناك رد فعل جماعي من الحلف، من ناحية ثالثة كان لدى بعض الدول اهتمام بتأسيس ما يسمى «بالمقاتلين الرقميين» وخاصة في وزارات الدفاع كما هو الحال في فرنسا وألمانيا على سبيل المثال.
ذلك التحدي لم يكن هاجساً للدول فحسب بل إنه أصبح على أجندة منظمة الأمم المتحدة بما يعني قرع أجراس الخطر وتنبيه دول العالم بأن عليها الاتفاق الآن وقبل أي وقت مضى على صيغة معاهدة لضبط استخدام التقنيات الحديثة، ففي جلسة لمجلس الأمن في يوليو 2023 بعنوان «الذكاء الاصطناعي: الفرص والمخاطر للسلام والأمن الدوليين»، قال أنطونيو جوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة: «إن الاستخدامات الضارة لأنظمة الذكاء الاصطناعي لأغراض إرهابية أو إجرامية لصالح دولة يمكن أن يتسبب في مستويات مرعبة من الموت والدمار ... على نطاق يفوق التصور «مطالباً بضرورة» إنشاء كيان أممي جديد لإدارة تلك التقنية»، وفي يونيو 2024 عقد مجلس الأمن جلسة «بعنوان» صون السلام والأمن الدوليين: «التصدي للتهديدات المتطورة في الفضاء السيبراني»، وخلال تلك الجلسة قال الأمين العام للمنظمة: «إن التكامل المتزايد بين الأنظمة الرقمية وأنظمة الأسلحة بما فيها الأسلحة المستقلة تعكس نقاط الضعف، وإن إساءة استخدام التكنولوجيا الرقمية تطور بشكل خفي»، ولا شك أن تلك التحذيرات الأممية تضع دول العالم كافة أمام مسؤوليتها لإبرام معاهدة دولية ملزمة حول استخدام تلك التقنيات التي أضحى خطرها يفوق الأسلحة النووية ذاتها.
ومع أهمية ما سبق في تقديري فإن مخاطر تلك التكنولوجيا تزداد في الدول التي تعتمد على التحول الرقمي، لأنه يمكن تعطيل عمل المنشآت الحيوية للدولة بما يعنيه ذلك من أن تأمين تلك المنشآت من ناحية والاستعداد لإدارة أزمة هجوم سيبراني من ناحية ثانية ضرورة استراتيجية وخاصة في دول الخليج العربي التي تقوم بتنفيذ المدن الذكية التي تعتمد وبشكل كامل على الرقمنة، من ناحية ثانية يتضح تأثير المخاطر السيبرانية أيضاً بالنسبة إلى دول الخليج العربي التي كانت تعتمد على شراء الأسلحة ضمن استراتيجيتها الدفاعية والآن أصبحت التكنولوجيا محدداً مهماً ضمن تلك المشتريات بل ومكوناً مهماً ضمن خطط بعض من تلك الدول لتوطين الصناعات العسكرية وما تتطلبه من نقل التكنولوجيا في ظل القيود التي تضعها بعض شركات التصنيع العسكري العالمية على تصدير أنواع محددة من تلك التكنولوجيا، من ناحية ثالثة فإن المتتبع لحالات الهجوم السيبراني في منطقة الخليج العربي خلال العقد الماضي سوف يجد أن المستهدف كان قطاع الطاقة والمنشآت الحيوية بما يعنيه ذلك من الإضرار بالأمن القومي لتلك الدول التي تعتمد بشكل رئيسي على ذلك القطاع في دخلها القومي.
وإزاء تلك المخاطر انتهجت دول الخليج العربي مسارات عديدة لمواجهتها وهو ما يتضح من إصدار الاستراتيجيات وعقد المؤتمرات إلا أن ثمة جهودا أخرى في تقديري أنها مهمة ومنها الاهتمام بإجراء التمرينات الافتراضية للتعامل مع هجوم سيبراني متوقع لأن تلك التمرينات تعكس ثلاثة مكونات مهمة ضمن خطط الدول وهي القدرات المتوافرة والتهديدات المتوقعة والفجوات إن وجدت، بالإضافة إلى إيلاء الجانب الأمني أهمية كبيرة عند تصميم المدن الذكية لتكون «مدناً ذكية وآمنة» وهناك أمثلة عديدة في دول العالم لتعرض مدن بأكملها لهجوم سيبراني وكان ذلك تحدياً كبيراً وخصوصاً في ظل صعوبة تحديد الجهات المسؤولة عن تلك الهجمات، من ناحية ثالثة أهمية بل حتمية تطوير قدرات الكوادر البشرية في مجال الأمن السيبراني، من ناحية رابعة يكتسب التعاون الإقليمي أهميته، ففي ظل السعي لتنفيذ المشروعات الخليجية الواعدة المشتركة ومنها خطوط السكك الخليجية الحديدية المشتركة وغيرها من المشروعات الطموحة فإن حماية تلك المشروعات التي سوف تعتمد على الرقمنة بحاجة إلى تعاون خليجي في مجال الأمن السيبراني وهناك جهود يمكن البناء عليها منها مبادرة مجلس التعاون عام 2023 لتبادل المعلومات في مجال الأمن السيبراني، وأخيراً فإن تنويع الشراكات الدولية لتبادل الخبرات في هذا المجال يعد أمراً ضرورياً لدول الخليج العربي.
ومجمل القول إن دول العالم تخوض حروباً بلا جيوش في فضاء بلا حدود وهذا هو التحدي الهائل في مجال الأمن السيبراني.
{ مدير برنامج الدراسات
الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك