لست متفائلا كثيرا بمخرجات الاجتماع رقم (29) حول التغير المناخي والذي سيعقد في مدينة باكو في أذربيجان في الفترة من 11 إلى 22 نوفمبر 2024. وعدم تفاؤلي مبني على خبرتي وتاريخ هذه الاجتماعات الطويل منذ عام 1992 وحتى يومنا هذا، كما أن عدم تفاؤلي يستند على وقائع هذه الاجتماعات وما تمخض عنها منذ أكثر من 32 عاماً و28 اجتماعا رسميا للدول الموقعة على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي.
ولذلك آخذكم في جولة سريعة مع هذه الاجتماعات الدولية التي أُطلق عليها اجتماعات «سياحة التغير المناخي»، لأنها طافت وجابت كل دول العالم، من دول الغرب إلى دول الشرق ودول الخليج العربي، ولكن دون أن تحقق في نهاية المطاف الهدف المنشود والرئيس من اتفاقية التغير المناخي، وهو الوصول إلى الإجماع الدولي المشترك على معاهدة ملزمة لكل الدول متعلقة بالتغير المناخي، إضافة إلى إلزام ومحاسبة جميع الدول كل حسب مسؤوليته التاريخية والحالية بخفض انبعاثاتها من الغازات المتهمة بالتغير المناخي، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون الناجم عن حرق الوقود الأحفوري، من فحم، وبترول، وغاز طبيعي.
فالمدينة السياحية الأولى التي عُقد فيها الاجتماع التمهيدي، أو الجولة السياحية الأولى التي رست فيها سفينة المناخ فقد كانت قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية في عام 1992، وهي تُعد القمة التاريخية التي وافقت على وضع النواة الأولى للمواجهة الدولية المشتركة لقضية التغير المناخي من خلال «اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي»، كما مهدت الطريق أمام البدء في عقد الاجتماعات الدولية لإجراء المفاوضات بين دول العالم الموقعة على الاتفاقية الإطارية لإدارة ملف التغير المناخي. فكانت المحطة الأولى للقطار السياحي المناخي الذي سيجوب مدن العالم هي مدينة برلين الألمانية في عام 1995، وانتهت بالاجتماع رقم (28) بمدينة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة.
ومعظم هذه الاجتماعات غابت وضاعت في صفحات تاريخ التغير المناخي، فهي لم تُقدم جديداً، ولم تتخذ خطوة واحدة إلى الأمام لتحقيق الهدف الأسمى للتغير المناخي، ولم تتمكن من إقناع الدول الصناعية الكبرى التي تتحمل المسؤولية التاريخية لسخونة كوكبنا وارتفاع حرارته للحد من انبعاثاتها الغازية المتهمة بالتغير المناخي بدرجة ملموسة تُحدث فارقاً مشهوداً في مسرح التغير المناخي للكرة الأرضية. ولذلك من بين 28 اجتماعاً للتغير المناخي، هناك بعض الاجتماعات التي حاولت إحداث التغيير المطلوب، ونجحت فترة محدودة جداً على تحقيق جزء من الهدف المنشود.
ففي الاجتماع الثالث الذي عقد في مدينة كيوتو اليابانية عام 1997، وافقت الدول على «بروتوكول كيوتو» للتغير المناخي. ولكن هذا البروتوكول لم يحقق كلياً الهدف الرئيس، فقد جاء ناقصاً وغير شامل، حيث ألزم البروتوكول فقط الدول الصناعية المتقدمة الكبرى على وضع سقفٍ لانبعاثاتها من الغازات المتهمة بوقوع التغير المناخي، واستثنى البروتوكول الدول النامية غير المتقدمة من وضع حدودٍ تتعهد بها لخفض انبعاثاتها. ومن جانب آخر أيضاً، فإن الهدف الرئيس لم يتحقق أيضاً في أن البروتوكول فشل في وضع آلية أممية تراقب وتحاسب وتعاقب أية دولة لا تفي بالتزاماتها وتعهداتها التي قطعتها على نفسها لخفض انبعاث الملوثات المناخية.
وبالرغم من هذا الإنجاز الدولي المحدود إلا أن البروتوكول في نهاية المطاف لم ير النور، ولم ينفذ بدرجة فاعلة في الواقع الميداني، وبخاصة بعد انسحاب أكبر دولة مسؤولة عن حدوث التغير المناخي وهي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث رفض جورج بوش الابن التصديق عليه، فانتهى البروتوكول وانتقل إلى مثواه الأخير وتم دفنه في أرشيف التغير المناخي.
ثم بعد سنوات من الركود المناخي وعدم تحقيق أي انجاز مشهود ينعكس على سخونة كوكبنا، جاء الاجتماع رقم(21) لعام 2015، حيث أجمعت الوفود على اتفاقية باريس، ومن بين أهم بنودها هو تجميد ارتفاع حرارة الأرض عند أقل من درجتين، كما حددت الارتفاع بدرجة ونصف الدرجة المئوية كالحد والهدف الذي تسعى دول العالم إلى تحقيقه، كما قررت أن تقوم الدول بتقديم تقرير سنوي تحت عنوان: «الإسهامات القومية المحددة» Nationally Determined Contributions (NDCs))، حيث تلزم كل دولة نفسها طواعية بتحديد نسبة الخفض في انبعاثاتها من الغازات الدفيئة المسببة لسخونة الأرض. وهذا الاتفاق أيضاً لم يُكتب له النجاح، حيث انسحب منه رسمياً الرئيس الأمريكي السابق ترامب.
أما الاجتماع رقم(26) في مدينة جلاسجو في بريطانيا في عام 2021 فقد دخل في مناقشات ومفاوضات ماراثونية عقيمة استغرقت نحو 14 يوماً حول مصطلحين، الأول هو »الخفض المنهجي« (phase down)، أي تُخفض دول العالم استهلاكها واستخدامها الوقود الأحفوري بشكل تدريجي ومنهجي مع الزمن، أي لا يعني التخلص الكلي، والثاني هو مصطلح «التوقف الكلي» (phase out)، أي التوقف عن استخدام الوقود الأحفوري، حيث توصل المجتمعون قبيل انتهاء الاجتماع بدقائق معدودة فقط إلى الموافقة على عبارة «الخفض المنهجي»، ولكن فقط للفحم ولمصانع توليد الكهرباء التي لا توجد بها أجهزة تحكم للملوثات، دون الإشارة إلى النفط والغاز الطبيعي. وفي الاجتماع رقم (28) في دبي عام 2023 تم إلغاء المصطلحين السابقين، وظهر مصطلح جديد آخر هو «التحول بعيداً» (transition away)، أي الانتقال بعيداً عن استخدام كل أنواع الوقود الأحفوري، حيث جاء نص القرار: «التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري في أنظمة الطاقة، وذلك بطريقة عادلة ومنظمة ومُنصفة، وتسريع العمل في هذا العقد الحرج، وذلك لتحقيق صافي الصفر بحلول عام 2050». ولكن هذا القرار لم يحدد السقف الزمني، أو حجم هذا الخفض من كل دولة حول العالم، إضافة إلى عدم التطرق إلى آلية هذا الانتقال.
وبعد هذه الجولة مع اجتماعات الأمم المتحدة حول التغير المناخي، أُقدم لكم أهم استنتاجاتي المتعلقة بهذه الاجتماعات السنوية، كما يلي:
أولاً: قرارات اجتماعات الأمم المتحدة معقدة وبطيئة جداً لأنها مبنية على إجماع الدول، وفي الوقت نفسه فإن هذه القرارات غير ملزمة لأية دولة، فهي طوعية من ناحية التنفيذ. وبالرغم من ذلك فإن هذه القرارات لا تنفذ في أرض الواقع، والدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية عادة لا تعترف بها حسب سيطرة الحزب على البيت الأبيض، كما حدث لبروتوكول كيوتو، واتفاقية باريس.
ثانياً: قرارات هذه الاجتماعات لا تتناسب مع عدد الاجتماعات الذي بلغ 28 اجتماعاً، كما إنها لا تواكب ولا تلحق بسرعة الفساد العام والتدمير المناخي الواسع النطاق الواقع للكرة الأرضية والمجتمعات البشرية الساحلية من ناحية سخونتها وارتفاع حرارتها والانعكاسات الناجمة عنها، فانبعاثات غازات الدفيئة ارتفعت بمستوى قياسي جديد في عام 2023 مقارنة بالسنوات الماضية، أي قرابة 57 جيجا طن، مما يعني أن الكرة الأرضية في طريقها إلى سخونة مرتفعة وشديدة قد تصل إلى قرابة 3.1 درجة مئوية بحلول نهاية القرن، حسب تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة السنوي تحت عنوان: «فجوة الانبعاثات»Emissions Gap Report 2024 المنشور في 24 أكتوبر 2024. وهذا يعد تجاوزاً صارخاً لأهداف تفاهمات باريس، والتي تعهد فيها قادة العالم بأن يجعلوا حرارة الأرض لا تبلغ 2 درجة مئوية، وأن تكون سخونة الأرض تقترب فقط في الارتفاع من 1.5 درجة مئوية.
وهكذا تتواصل الاجتماعات السنوية المناخية من مدينة إلى مدينة أخرى حول العالم دون قرارات والتزامات فاعلة وقوية وملزمة للجميع تُوقف المد المتسارع لسخونة الأرض والمردودات الناجمة عنها من ارتفاع لمستوى سطح البحر ونزول الأعاصير والفيضانات المدمرة للبشر والشجر والحجر.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك