إذا نظرنا إلى مجمل المشهد السياسي العالمي، نستطيع أن نتحدث عن لحظة أزمة حقيقية تعتري علاقة الدول بمجتمعاتها ومواطنيها ومواطناتها جوهرها إما اختلال متعدد المستويات لعقد اجتماعي متوازن تبلور واستقر بمراحل سابقة أو استمرار لغيابه في ظل صراعات متواترة تعصف بأسس العيش المجتمعي المشترك.
ديمقراطيات أمريكا الشمالية وأوروبا، وبعد حقبة طويلة استقر بها عقد دولة الرفاه الاجتماعي وجمعت بصياغات مختلفة بين مكونات ثلاث هي التزام اقتصاد السوق وضمان عدالة الحد الأدنى وممارسة الحريات المدنية والسياسية، تعاني اليوم من اختلالات حقيقية تعمق من آثارها الأزمة الاقتصادية العالمية وتطول دور الدولة وحدود مسؤولياتها في إدارة اقتصاد السوق والخيط الناظم لعلاقتها بالمجتمع والأفراد.
فقد أخذت الهوة الفاصلة بين دخول الشريحة العليا من أغنياء الولايات المتحدة وبين حظوظ بقية السكان من الثروة في الاتساع منذ الثمانينيات مع تراجع دور الدولة الضامن للعدالة التوزيعية وتغير النظم الضريبية لصالح الأغنياء لتصل إلى معدلات غير مسبوقة.
وفقا لإحصائيات عام 2022، يستحوذ ما لا يزيد على 10 بالمائة من الأمريكيين على أكثر من 70 بالمائة من ثروة المجتمع، تاركين ما يقل عن الثلث لأغلبية ساحقة (90 بالمائة) من الفقراء والشرائح محدودة ومتوسطة الدخل.
هنا تكشف مقارنة سريعة مع معدلات السبعينيات وخلالها لم يتجاوز نصيب الشريحة العليا من الثروة 30 بالمائة، عن راديكالية التحولات المجتمعية التي تشهدها الولايات المتحدة في ظل تراجع دور الدولة وتوحش اقتصاد السوق.
وقناعتي أن القوة العظمى، والسياسات المتبعة تذهب في هذا الاتجاه، لن تخرج من أزمتها الاقتصادية إلا بإعادة شيء من دور الدولة إلى السوق وإلى المجتمع شيء من العدالة التوزيعية بين الأغنياء والفقراء.
إذا ما استثنينا النماذج الراقية للعدالة الاجتماعية في الدول الإسكندنافية، يتشابه التطور المعاصر لمجتمعات غرب أوروبا مع الخبرة الأمريكية وإن اختلفت النسب والمعدلات. فعمليات تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي وكف يدها العادلة عن اقتصاد السوق، والتي دشنتها أوروبيا رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر (1979 ــ 1990) واتسع نطاقها تدريجيا ليشمل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وتعاقبت على تطبيقها حكومات يمين ويسار، أخلت بتوازن المجتمعات الأوروبية وأفقدت النخب الشيء الكثير من شرعية القبول الشعبي.
خلال العقدين الماضيين وكما أظهرت بيانات إحصائية ومسحية مختلفة، ارتفعت معدلات تركيز الثروة بمعظم الحالات الأوروبية على نحو عمق من الفوارق الطبقية وقلص من المساحة التي تشغلها الشرائح متوسطة الدخل بالخريطة المجتمعية وجعل من الفقر ظاهرة متنامية.
على سبيل المثال تراجعت نسبة الطبقة الوسطى إلى إجمالي السكان بألمانيا من 62 بالمائة عام 2000 إلى 50 بالمائة عام 2022 وتجاوزت نسبة من يهددهم الفقر 12 بالمائة، بل بلغت الأخيرة ببريطانيا 17 بالمائة وبإيطاليا 18 بالمائة. ومع أن الحكومات الأوروبية وعلى نقيض الخبرة الأمريكية لم تتبع تفكيك دولة الرفاه بانتقاص جوهري في الحريات المدنية والسياسية ارتبط أمريكيا بممارسات إداراتي بوش 2000 ــ 2008، إلا أنها أضحت هي الأخرى تعاني من أزمة شرعية يسهم في تكريسها إن فضائح فساد متتالية أو تحالفات عضوية بين السياسة والمال أو غياب شبه تام للاختلافات الفعلية (أي البرامجية) بين قوى اليمين واليسار يرتب عزوف المواطنات والمواطنين عن السياسة وفقدان ثقتهم بمن يمارسها.
وما التنامي اللافت لظواهر مرضية كالعنصرية والشعبوية والعنف، وجميعها مرشح للتصاعد في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، سوى تعبير عن الاختلال المستمر في العقد الاجتماعي الضابط لعلاقة الدولة بالمجتمع والأفراد وعجز الدول الأوروبية عن صياغة لحظة توازن جديدة وشرعنتها توافقيا.
إن كانت هذه هي وضعية الديمقراطيات الغنية بالغرب اليوم وهي تواجه الأزمة الاقتصادية الأعمق منذ كساد ثلاثينيات القرن الماضي والأزمات الاجتماعية والسياسية الكثيرة التي تحيط بها، فكيف سيكون حالها خلال السنوات القادمة وهي تتورط في سباقات تسلح منفلتة ومحفوفة بالمخاطر؟
فقط أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية سباقا لتوريد السلاح إلى الأراضي الأوكرانية وسباقا للضغط على الدول الأوروبية لتوريد السلاح للجيش الأوكراني يهدد السلم والأمن العالميين ويدفعهما إلى حافة هاوية غير مسبوقة منذ عقود طويلة.
وصمت الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وآسيا والمحيط الهادي عن عسكرة الصراعات الإقليمية وتفجر الحروب في الشرق الأوسط والسودان وغرب إفريقيا ومناطق أخرى ينذر بعواقب إنسانية ومجتمعية وبيئية وخيمة.
يحدث كل هذا، بينما يتملص الجانبان الأمريكي والأوروبي من التزاماتهما المالية للتعامل مع التغير المناخي وتداعياته شمالا وجنوبا.
يحدث هذا، ونحن في معية أخطار كبيرة تحيط بالغرب من الداخل مع صعود اليمين المتطرف وأخطار العنف المحدقة بمجتمعات أمريكا الشمالية وأوروبا.
يحدث هذا، ونحن نشاهد تبلور توافقات جديدة بين النخب الغربية لا تمانع معها من استخدام الأدوات العسكرية لتثبيت نفوذها في مناطق مختلفة ولمواجهة صعود الصين عالميا ولا تعارض أيضا معها تواصل الحروب والنزاعات الإقليمية الدامية في أقاليم عديدة. وليس حال الشرق الأوسط وحال السودان عنا بغائب.
{ أستاذ العلوم السياسية
في جامعة ستانفورد الأمريكية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك