العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

مسؤولية الغرب الرأسمالي عن سباق التسلح العالمي

بقلم: د. عمرو حمزاوي

الأربعاء ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٤ - 02:00

إذا‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬مجمل‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬العالمي،‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬لحظة‭ ‬أزمة‭ ‬حقيقية‭ ‬تعتري‭ ‬علاقة‭ ‬الدول‭ ‬بمجتمعاتها‭ ‬ومواطنيها‭ ‬ومواطناتها‭ ‬جوهرها‭ ‬إما‭ ‬اختلال‭ ‬متعدد‭ ‬المستويات‭ ‬لعقد‭ ‬اجتماعي‭ ‬متوازن‭ ‬تبلور‭ ‬واستقر‭ ‬بمراحل‭ ‬سابقة‭ ‬أو‭ ‬استمرار‭ ‬لغيابه‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬صراعات‭ ‬متواترة‭ ‬تعصف‭ ‬بأسس‭ ‬العيش‭ ‬المجتمعي‭ ‬المشترك‭.‬

ديمقراطيات‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬وأوروبا،‭ ‬وبعد‭ ‬حقبة‭ ‬طويلة‭ ‬استقر‭ ‬بها‭ ‬عقد‭ ‬دولة‭ ‬الرفاه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وجمعت‭ ‬بصياغات‭ ‬مختلفة‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬ثلاث‭ ‬هي‭ ‬التزام‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق‭ ‬وضمان‭ ‬عدالة‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬وممارسة‭ ‬الحريات‭ ‬المدنية‭ ‬والسياسية،‭ ‬تعاني‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬اختلالات‭ ‬حقيقية‭ ‬تعمق‭ ‬من‭ ‬آثارها‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬العالمية‭ ‬وتطول‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬وحدود‭ ‬مسؤولياتها‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق‭ ‬والخيط‭ ‬الناظم‭ ‬لعلاقتها‭ ‬بالمجتمع‭ ‬والأفراد‭.‬

فقد‭ ‬أخذت‭ ‬الهوة‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬دخول‭ ‬الشريحة‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬أغنياء‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وبين‭ ‬حظوظ‭ ‬بقية‭ ‬السكان‭ ‬من‭ ‬الثروة‭ ‬في‭ ‬الاتساع‭ ‬منذ‭ ‬الثمانينيات‭ ‬مع‭ ‬تراجع‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬الضامن‭ ‬للعدالة‭ ‬التوزيعية‭ ‬وتغير‭ ‬النظم‭ ‬الضريبية‭ ‬لصالح‭ ‬الأغنياء‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬معدلات‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭.‬

‭ ‬وفقا‭ ‬لإحصائيات‭ ‬عام‭ ‬2022،‭ ‬يستحوذ‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬10‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬الأمريكيين‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬70‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬ثروة‭ ‬المجتمع،‭ ‬تاركين‭ ‬ما‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬الثلث‭ ‬لأغلبية‭ ‬ساحقة‭ (‬90‭ ‬بالمائة‭) ‬من‭ ‬الفقراء‭ ‬والشرائح‭ ‬محدودة‭ ‬ومتوسطة‭ ‬الدخل‭.‬

هنا‭ ‬تكشف‭ ‬مقارنة‭ ‬سريعة‭ ‬مع‭ ‬معدلات‭ ‬السبعينيات‭ ‬وخلالها‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬نصيب‭ ‬الشريحة‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬الثروة‭ ‬30‭ ‬بالمائة،‭ ‬عن‭ ‬راديكالية‭ ‬التحولات‭ ‬المجتمعية‭ ‬التي‭ ‬تشهدها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تراجع‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬وتوحش‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق‭.‬

‭ ‬وقناعتي‭ ‬أن‭ ‬القوة‭ ‬العظمى،‭ ‬والسياسات‭ ‬المتبعة‭ ‬تذهب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬لن‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬أزمتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬إلا‭ ‬بإعادة‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬وإلى‭ ‬المجتمع‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬العدالة‭ ‬التوزيعية‭ ‬بين‭ ‬الأغنياء‭ ‬والفقراء‭.‬

إذا‭ ‬ما‭ ‬استثنينا‭ ‬النماذج‭ ‬الراقية‭ ‬للعدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الإسكندنافية،‭ ‬يتشابه‭ ‬التطور‭ ‬المعاصر‭ ‬لمجتمعات‭ ‬غرب‭ ‬أوروبا‭ ‬مع‭ ‬الخبرة‭ ‬الأمريكية‭ ‬وإن‭ ‬اختلفت‭ ‬النسب‭ ‬والمعدلات‭. ‬فعمليات‭ ‬تفكيك‭ ‬دولة‭ ‬الرفاه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وكف‭ ‬يدها‭ ‬العادلة‭ ‬عن‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق،‭ ‬والتي‭ ‬دشنتها‭ ‬أوروبيا‭ ‬رئيسة‭ ‬الوزراء‭ ‬البريطانية‭ ‬السابقة‭ ‬مارجريت‭ ‬تاتشر‭ (‬1979‭ ‬ــ‭ ‬1990‭) ‬واتسع‭ ‬نطاقها‭ ‬تدريجيا‭ ‬ليشمل‭ ‬ألمانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬وإسبانيا‭ ‬وتعاقبت‭ ‬على‭ ‬تطبيقها‭ ‬حكومات‭ ‬يمين‭ ‬ويسار،‭ ‬أخلت‭ ‬بتوازن‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوروبية‭ ‬وأفقدت‭ ‬النخب‭ ‬الشيء‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬شرعية‭ ‬القبول‭ ‬الشعبي‭.‬

خلال‭ ‬العقدين‭ ‬الماضيين‭ ‬وكما‭ ‬أظهرت‭ ‬بيانات‭ ‬إحصائية‭ ‬ومسحية‭ ‬مختلفة،‭ ‬ارتفعت‭ ‬معدلات‭ ‬تركيز‭ ‬الثروة‭ ‬بمعظم‭ ‬الحالات‭ ‬الأوروبية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬عمق‭ ‬من‭ ‬الفوارق‭ ‬الطبقية‭ ‬وقلص‭ ‬من‭ ‬المساحة‭ ‬التي‭ ‬تشغلها‭ ‬الشرائح‭ ‬متوسطة‭ ‬الدخل‭ ‬بالخريطة‭ ‬المجتمعية‭ ‬وجعل‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬ظاهرة‭ ‬متنامية‭. ‬

على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬تراجعت‭ ‬نسبة‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬إلى‭ ‬إجمالي‭ ‬السكان‭ ‬بألمانيا‭ ‬من‭ ‬62‭ ‬بالمائة‭ ‬عام‭ ‬2000‭ ‬إلى‭ ‬50‭ ‬بالمائة‭ ‬عام‭ ‬2022‭ ‬وتجاوزت‭ ‬نسبة‭ ‬من‭ ‬يهددهم‭ ‬الفقر‭ ‬12‭ ‬بالمائة،‭ ‬بل‭ ‬بلغت‭ ‬الأخيرة‭ ‬ببريطانيا‭ ‬17‭ ‬بالمائة‭ ‬وبإيطاليا‭ ‬18‭ ‬بالمائة‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬الحكومات‭ ‬الأوروبية‭ ‬وعلى‭ ‬نقيض‭ ‬الخبرة‭ ‬الأمريكية‭ ‬لم‭ ‬تتبع‭ ‬تفكيك‭ ‬دولة‭ ‬الرفاه‭ ‬بانتقاص‭ ‬جوهري‭ ‬في‭ ‬الحريات‭ ‬المدنية‭ ‬والسياسية‭ ‬ارتبط‭ ‬أمريكيا‭ ‬بممارسات‭ ‬إداراتي‭ ‬بوش‭ ‬2000‭ ‬ــ‭ ‬2008،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬أضحت‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬أزمة‭ ‬شرعية‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬تكريسها‭ ‬إن‭ ‬فضائح‭ ‬فساد‭ ‬متتالية‭ ‬أو‭ ‬تحالفات‭ ‬عضوية‭ ‬بين‭ ‬السياسة‭ ‬والمال‭ ‬أو‭ ‬غياب‭ ‬شبه‭ ‬تام‭ ‬للاختلافات‭ ‬الفعلية‭ (‬أي‭ ‬البرامجية‭) ‬بين‭ ‬قوى‭ ‬اليمين‭ ‬واليسار‭ ‬يرتب‭ ‬عزوف‭ ‬المواطنات‭ ‬والمواطنين‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬وفقدان‭ ‬ثقتهم‭ ‬بمن‭ ‬يمارسها‭.‬

وما‭ ‬التنامي‭ ‬اللافت‭ ‬لظواهر‭ ‬مرضية‭ ‬كالعنصرية‭ ‬والشعبوية‭ ‬والعنف،‭ ‬وجميعها‭ ‬مرشح‭ ‬للتصاعد‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬العالمية،‭ ‬سوى‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الاختلال‭ ‬المستمر‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الضابط‭ ‬لعلاقة‭ ‬الدولة‭ ‬بالمجتمع‭ ‬والأفراد‭ ‬وعجز‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬عن‭ ‬صياغة‭ ‬لحظة‭ ‬توازن‭ ‬جديدة‭ ‬وشرعنتها‭ ‬توافقيا‭.‬

إن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬وضعية‭ ‬الديمقراطيات‭ ‬الغنية‭ ‬بالغرب‭ ‬اليوم‭ ‬وهي‭ ‬تواجه‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الأعمق‭ ‬منذ‭ ‬كساد‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬والأزمات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بها،‭ ‬فكيف‭ ‬سيكون‭ ‬حالها‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬القادمة‭ ‬وهي‭ ‬تتورط‭ ‬في‭ ‬سباقات‭ ‬تسلح‭ ‬منفلتة‭ ‬ومحفوفة‭ ‬بالمخاطر؟

‭ ‬فقط‭ ‬أطلقت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬سباقا‭ ‬لتوريد‭ ‬السلاح‭ ‬إلى‭ ‬الأراضي‭ ‬الأوكرانية‭ ‬وسباقا‭ ‬للضغط‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬لتوريد‭ ‬السلاح‭ ‬للجيش‭ ‬الأوكراني‭ ‬يهدد‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬العالميين‭ ‬ويدفعهما‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬هاوية‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬طويلة‭. ‬

وصمت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وحلفائها‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬وآسيا‭ ‬والمحيط‭ ‬الهادي‭ ‬عن‭ ‬عسكرة‭ ‬الصراعات‭ ‬الإقليمية‭ ‬وتفجر‭ ‬الحروب‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬والسودان‭ ‬وغرب‭ ‬إفريقيا‭ ‬ومناطق‭ ‬أخرى‭ ‬ينذر‭ ‬بعواقب‭ ‬إنسانية‭ ‬ومجتمعية‭ ‬وبيئية‭ ‬وخيمة‭.‬

يحدث‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬بينما‭ ‬يتملص‭ ‬الجانبان‭ ‬الأمريكي‭ ‬والأوروبي‭ ‬من‭ ‬التزاماتهما‭ ‬المالية‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬التغير‭ ‬المناخي‭ ‬وتداعياته‭ ‬شمالا‭ ‬وجنوبا‭.‬

‭ ‬يحدث‭ ‬هذا،‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬معية‭ ‬أخطار‭ ‬كبيرة‭ ‬تحيط‭ ‬بالغرب‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬مع‭ ‬صعود‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرف‭ ‬وأخطار‭ ‬العنف‭ ‬المحدقة‭ ‬بمجتمعات‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬وأوروبا‭. ‬

يحدث‭ ‬هذا،‭ ‬ونحن‭ ‬نشاهد‭ ‬تبلور‭ ‬توافقات‭ ‬جديدة‭ ‬بين‭ ‬النخب‭ ‬الغربية‭ ‬لا‭ ‬تمانع‭ ‬معها‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬الأدوات‭ ‬العسكرية‭ ‬لتثبيت‭ ‬نفوذها‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬مختلفة‭ ‬ولمواجهة‭ ‬صعود‭ ‬الصين‭ ‬عالميا‭ ‬ولا‭ ‬تعارض‭ ‬أيضا‭ ‬معها‭ ‬تواصل‭ ‬الحروب‭ ‬والنزاعات‭ ‬الإقليمية‭ ‬الدامية‭ ‬في‭ ‬أقاليم‭ ‬عديدة‭. ‬وليس‭ ‬حال‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬وحال‭ ‬السودان‭ ‬عنا‭ ‬بغائب‭.‬

 

{ أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬

‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬ستانفورد‭ ‬الأمريكية

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا