إن ما يثير الحنق ويدعو إلى السخط أن نسمع صناع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وأماكن أخرى يشيرون إلى أن الضربات المدمرة التي وجهتها إسرائيل إلى حزب الله ولبنان قد خلقت «فرصة لوضع لبنان على مسار أفضل».
أولاً وقبل كل شيء، إن مثل هذا الكلام مرفوض وينم عن لامبالاة. فقد سقط حتى الآن آلاف القتلى، ودُمرت أجزاء كبيرة من العاصمة بيروت، وتشرد ربع شعب لبنان داخلياً من دون مأوى أو طعام أو خدمات كافية. ولا تزال حصيلة الضحايا والدمار العارم تتفاقم.
إن القول بأن الخير يمكن أن ينجم عن هذه المأساة الإنسانية الهائلة أمر مشين. فمثل هذا الرأي لا يهين الضحايا فحسب، بل يشبه أيضًا وضع «الرماد في أفواه» أولئك الذين فقدوا أحباءهم وهم في حالة حداد.
كما أن مثل هذه العقلية ساذجة بشكل خطير لأنها تتجاهل دروس التاريخ. ولنتذكر كيف قيل لنا، في خضم مواجهة كوابيس وكوارث مماثلة في عام 1982 أو 2006، إنها تشكل أيضاً فرصاً لتغيير الواقع.
لقد لجأت إسرائيل خلال تلك الحروب التي شهدها لبنان إلى القوة المفرطة التي توقع الضحايا وتتسبب في الدمار العارم. وفي كل مناسبة، كانت إسرائيل تقول دائما إن «أعداءها سوف يُهزمون إيذانا بانبلاج يوم جديد». في النهاية، أدت كل تلك الحروب والمواجهات السابقة التي شهدها لبنان إلى خلق وضع غير مستقر مع ظهور عدو أكثر شراسة من الرماد الذي تركه الجيش الإسرائيلي وراءه.
إن جذور كل هذه الصراعات تنبع من مظالم تاريخية حقيقية ولدت بدورها من الظلم، وهو ما أدى إلى ظهور حركات المقاومة في منطقة الشرق الأوسط. وبدلاً من معالجة هذه المظالم وحلها، ارتأت إسرائيل أن القوة هي الحل المقبول الوحيد، ووجدت في ذلك كل الدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.
في الواقع، فإن هذا هو ما قاله الإسرائيليون ودعمهم في ذلك الأمريكيون «بمجرد أن نعاقبهم ونجبرهم على الخضوع، سيكون كل شيء على ما يرام». من الواضح أن هذا النهج لم ينجح من قبل، ولن ينجح حتما الآن.
وفي خضم وعمق هذه المظالم الصارخة يكمن الظلم التاريخي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني. وقد وصفها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ببلاغة عندما أخبر مجموعة من القادة الفلسطينيين بأنه يعرف تاريخهم المتمثل في «تقطيع أوصالهم وتشريدهم وتشتتهم بين الدول والأمم».
أما بالنسبة للبنانيين، الذين أيدوا حزب الله وساروا في ركابه، فإن مظالمهم تشمل غضبهم الدائم إزاء الاحتلال الإسرائيلي العدائي الذي دام أكثر من عقدين من الزمن لجنوب لبنان، والذي أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من اللبنانيين، وعدم المساواة التاريخية نتيجة لنظام الحكم الطائفي في البلاد.
لا شيء من هذا يعني أن المليشيات الفلسطينية أو حركة حزب الله الشيعية لم ترتكب أخطاء جسيمة أثناء تحركها لمعالجة المظالم الناجمة عن طبيعة دوائرها الانتخابية.
إن هذه الجهود الرامية إلى القضاء على هذه الجماعات بالعنف تنم عن قراءة قصيرة النظر، في أحسن الأحوال، وهي لا تمثل بأي حال من الأحوال أي حل للصراعات، لأنها لا تعالج مصدر المظالم وجذورها التاريخية في المقام الأول.
إن مثل هذه الرؤية والنظرة للأشياء تمثل وصفة لكارثة أخرى حقيقية. إن تجاهل المسؤولية التي تتحملها إسرائيل عن أفعالها التي خلقت الكثير من المآسي وتسببت في تفاقم الصراعات، ثم رفض الضغط على إسرائيل لتغيير سياساتها العدوانية لن يؤديا إلا إلى انتشار المظالم وتحولها إلى أشكال أكثر فتكا ومأساوية.
هذا هو ما نحن فيه اليوم. وفي محاولة للقضاء التام على أي مقاومة للاحتلال وضم فلسطين، ترتكب إسرائيل إبادة جماعية في غزة، مع ترهيب وترويع بقية السكان الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة.
وفي الوقت نفسه، مع إطلاق حزب الله الصواريخ على إسرائيل لدعم بقاء «حليفه المقاوم» في فلسطين، حولت إسرائيل اهتمامها الآن نحو القضاء بشكل منهجي على قيادة حزب الله وكوادره.
وفي كل من لبنان وغزة، واصلت إسرائيل سعيها لتحقيق «النصر الكامل» من دون أي اعتبار للخسائر في صفوف المدنيين أو الأضرار التي لحقت بالمجتمع الأوسع وبنيته التحتية.
ونظرًا إلى أن إسرائيل تعتبر إيران الداعم الرئيسي لكل من حزب الله وحماس، فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك من خلال مهاجمة المواقع الإيرانية واغتيال حلفاء إيران في لبنان وسوريا وإيران نفسها، ما جعل الشرق الأوسط على شفا حرب إقليمية مدمرة.
ورغم أن الولايات الأمريكية المتحدة تبدي قلقها علنا بشأن المخاطر المترتبة على توسيع هذه الحرب، فإنها لم تفعل شيئا لكبح سلوك إسرائيل. لقد وضعت واشنطن كإدارة أمريكية خطوطا حمراء تستمر إسرائيل في تجاوزها؛ كما أعربنا عن قلقنا إزاء سقوط ضحايا من المدنيين وهو ما تتجاهله إسرائيل؛ وطرحنا مراراً وتكرارا مقترحات لوقف إطلاق النار، وهو ما ظلت ترفضه إسرائيل.
وفي الوقت نفسه تقوم الولايات الأمريكية المتحدة بإغراق إسرائيل بالأسلحة الفتاكة المتطورة والدعم الدبلوماسي غير المحدود، والنتيجة هي إفلات إسرائيل من العقاب، والمزيد من الضحايا العرب، وزيادة المعاناة، وإبعاد الشرق الأوسط عن معالجة المشاكل الكامنة وراء الصراعات. عندما ينتهي القتال وتضع الحروب أوزارها، ستكون المظالم أكبر.
إذا كان التاريخ مجرد مقدمة، فمن المرجح أن نرى في السنوات المقبلة ظهور النسخة الثانية من حركة حماس وحركة لبنانية مُعاد تشكيلها تعادي وتستهدف كلا من إسرائيل وأولئك الذين يشعرون بأنهم خانوهم؛ وسط بئر عميقة مليئة بالغضب والمرارة الموجهة نحو إسرائيل والولايات الأمريكية المتحدة؛ ومنطقة غير مستقرة أكثر مما كانت عليه من قبل – هي منطقة الشرق الأوسط.
حتما لن تولد أو تكون هناك أي فرصة من رحم هذه المأساة. في الواقع، هناك شيء واحد فقط يمكننا أن نكون متأكدين منه، وهو أن حرب إسرائيل في لبنان وغزة لن تنتهي على خير.
وبدلاً من الأوهام الساذجة بشأن الفرص التي ستولد من رحم هذه الحروب، فإن الخطوة المنطقية الوحيدة للأمام هي إنهاء هذا الصراع الآن. ولكي يحدث ذلك، فإنه يجب على الولايات الأمريكية المتحدة، أن تتخذ موقفا حازما وتطلب من إسرائيل «التوقف»، ودعم ذلك من خلال تعليق شحنات الأسلحة.
عندها سوف نحتاج إلى معالجة الكلفة البشرية والعمل على تخفيف بعض المعاناة. وحينها فقط يصبح بوسعنا أن نبدأ في تقييم الخطوات التي يتعين علينا أن نتخذها للتعامل مع المظالم التي تكمن وراء هذه المأساة. هذه ليست فرصة، إنها مسؤولية.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك