تعود بي الذاكرة إلى يوم 8 ديسمبر 1987م، يوم اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، الفعل الإنساني الأنبل في تاريخ الشعوب التواقة للحرية والعدالة، وكانت شرارة الانتفاضة الأولى انطلقت من قطاع غزة الباسل، خزان الوطنية الفلسطينية، الشرارة انطلقت بالتحديد من شمال القطاع، من «جباليا» حين دهس مستوطن صهيوني عمدًا بشاحنته الضخمة سيارة عمال فلسطينيين من سكان «جباليا» عائدين من عملهم يتزودون بالوقود من محطة الوقود ليقتل أربعة منهم على الفور، لتشتعل المظاهرات في «جباليا» وتبدأ الصدامات مع معسكر الجيش والأهالي يشيعون الشهداء في جنازة مهيبة، مما اضطر الجيش الصهيوني لطلب تعزيزات وقام بإطلاق الرصاص الحي على المشيعين، وفي لمح البصر تشتعل الأرض المحتلة من «رفح» أقصى جنوب القطاع إلى «جنين» أقصى شمال الضفة الغربية المحتلة بالمظاهرات والإضرابات التي استمرت حتى عام 1993م.
في سبتمبر 2024م وضعت «خطة الجنرالات» التي اقترحها قديمًا الجنرال السابق في الجيش الصهيوني «غيورا آيلاند»، والتي تهدف إلى تهجير سكان شمال قطاع غزة قسرا، بفرض حصار كامل شامل على المنطقة ومنع دخول المساعدات الغذائية الإغاثية بغرض تجويع وتعطيش ما تبقى من الأهالي العرب الفلسطينيين ووضعهم أمام خيار الموت أو الاستسلام إن لم يرحلوا!
ويعتقد الجنرالات الصهاينة أن الحصار هو أنجع الحلول لإنهاء الحرب وتقليل عدد القتلى من الجنود وتحويل شمال قطاع غزة إلى منطقة عسكرية مغلقة، لا بل يذهب غلاة الصهاينة في حكومة الصهيونية الدينية المتطرفة إلى ضم شمال القطاع لدولة الكيان الغاصب، ويدعون إلى إقامة مستوطنات أيضًا!
وتنفيذًا للخطة صدرت 6 أوامر عسكرية (إشعارات) بالإخلاء لسكان «جباليا» و«بيت حانون» و«بيت لاهيا» ومناطق في «مدينة غزة» منذ السابع من أكتوبر 2024م وحتى الآن، ومركز الاستهداف هو «مخيم جباليا» بحجة عدم تكرار 7 أكتوبر 2023م وإزالة ما يسمى بالتهديد الوجودي!
نحن أمام حرب إبادة جماعية مكثفة تجري بوتيرة سريعة في شمال قطاعنا الباسل استجابة لتصريحات الجنرال «تشارلز براون» رئيس هيئة الأركان الأمريكية الذي انتقد أداء الجيش الصهيوني باجتياحه المناطق ثم الانسحاب منها ومطالبته لهم بالاجتياح والتطهير والبقاء وعدم المغادرة، وهو صاحب مقولة أن التوصل إلى حسم سريع للقتال في غزة قد يساعد في تقليص انضمام المدنيين الفلسطينيين إلى صفوف المسلحين!
ولن ننخدع كثيرًا برسالة وزيري الخارجية والدفاع الأمريكيين «أنتوني بلينكن» و«لويد أوستن» إلى وزيري الدفاع والشؤون الاستراتيجية الصهيونيين «جالانت» و«رون ديرمر» في 13 أكتوبر 2024م، طالبا فيها حكومة «نتنياهو» بتحسين الظروف الإنسانية في غزة خلال 30 يومًا أو المخاطرة بتأثر إمدادات الأسلحة الأمريكية!
واللافت أن الرسالة تزامنت مع وصول المنظومة الصاروخية الأمريكية «ثاد» لدولة الاحتلال والعدوان والأبارثهايد الصهيونية مع جنود أمريكيين، وتزامنت المهلة مع موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 5 نوفمبر 2024 م، ربما لعدم خسارة أصوات العرب والمسلمين الأمريكيين والتي ستكون لها تأثير في من سيكسب الانتخابات الرئاسية، علمًا أن العرب والمسلمين الأمريكيين قرروا عبر منظماتهم و جمعياتهم عدم التصويت لكلا المرشحين لانحيازهما الأعمى لدولة الاحتلال، ولكنها محاولة من الديمقراطيين لاستمالتهم في اللحظات الأخيرة من السباق لعل وعسى!
أعلنا ومن خبرة طويلة في السياسة الأمريكية أن الإدارة الأمريكية لا تضع على الطاولة للشعب العربي الفلسطيني سوى التصفية ولا يوجد في قاموس الإدارات الأمريكية المتعاقبة من ديمقراطيين وجمهوريين مفهوم التسوية والاعتراف بحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني، فهم يعلمون أن ما يجري في غزة هي حرب إبادة جماعية تمارس بها كل صنوف الوحشية والهمجية، هناك حرق للبشر وهم أحياء وقطع للرؤوس وبتر للأطراف جراء الصواريخ والقنابل الأمريكية المصنوعة خصيصًا لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين العرب!
الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ أن ورثت الاستعمار القديم وهي في حرب مباشرة مع الشعب العربي الفلسطيني كما هي دول الاستعمار القديم بريطانيا وفرنسا ولن نتوقع منهم سوى الخداع والمراوغة وبعض الانتقادات اللفظية لدولة الكيان الغاصب مع فتح مخازن الأسلحة المتطورة الفتاكة لهم، ومناشدات لدولة الإبادة الجماعية بتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية الإغاثية للعرب الفلسطينيين، وربما سأل طفل عربي فلسطيني ما الذي حل بالميناء الأمريكي العائم؟
انطلقت الانتفاضة الأولى من «جباليا» ومن «جباليا» ستكسر «خطة الجنرالات» الذين لا يعرفون سوى القتل والتدمير للحياة الإنسانية، وننصحهم بقراءة تاريخ الشعوب، فالشعوب في النهاية تنتصر على جلاديها حتى ولو كان الأمريكان بظهورهم!
{ كاتب فلسطيني مقيم في مملكة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك