منحت جائزة نوبل للسلام هذا العام لمنظمة «نيهون هيدانكيو» اليابانية، التي تمثل الناجين من القصف الذري الذي دمر مدينتي هيروشيما وناجازاكي في عام 1945. هذا التكريم تذكير حي بالقدرة البشرية على تحويل أقسى تجارب الألم إلى قوة من أجل السلام، ورسالة واضحة تدعو إلى التأمل في آثار الحروب المدمرة والمضي قدما نحو عالم أكثر أمانا.
في صباح السادس من أغسطس 1945، كانت شوارع هيروشيما مليئة بالحياة. العمال كانوا يتوجهون إلى وظائفهم، الأطفال يهرولون نحو المدارس، والبائعون يعدون بضاعتهم.
امرأة كانت تسقي أزهار حديقتها، وهي لا تعلم أن هذه اللحظة البسيطة ستصبح آخر ما تفعله في حياتها اليومية. في لحظة واحدة، تحولت تلك الحياة المليئة بالتفاصيل الصغيرة إلى رماد؛ سحابة سوداء عملاقة غطت المدينة، وجرفت معها الضحكات والآمال.
لكن تلك اللحظة لم تنه حياة الناجين. بدلا من الاستسلام للحزن، اختاروا نقل تجربتهم إلى العالم.
من خلال منظمة «نيهون هيدانكيو»، أصبح الناجون أصواتا شاهدة على ضرورة التخلص من الأسلحة النووية. لم يكن هدفهم فقط سرد حكايات الدمار، بل تحذير البشرية من إعادة ارتكاب نفس الخطأ. هؤلاء الناجون، الذين يعيشون وسط أشباح ماضيهم، لا يطالبون بالثأر، بل بالسلام. رسالتهم إلى العالم بسيطة، لكنها عميقة: الأسلحة النووية تهدد مستقبلنا جميعا.
اليابان لم تعرف بماضيها المأساوي فقط، بل بنهضتها. بعد الحرب، كان بإمكان اليابانيين اختيار طريق الانتقام والغضب. لكنهم، بدلا من ذلك، ركزوا على إعادة بناء مجتمعهم من الداخل، معتمدين على العلم والتعليم. كان قرارهم واضحا: الحروب لا تصنع مجتمعات قوية. من هنا، ولدت اليابان الحديثة، كدولة تحمل نموذجا للعالم، ليس بقوتها العسكرية، بل بقوة تعليمها وابتكاراتها.
رغم أن هيروشيما وناجازاكي كانتا شاهدتين على أسوأ ما يمكن للبشرية أن تفعله، فإن اليابان اختارت أن تكون شاهدة على أفضل ما يمكن للبشرية تحقيقه. هذا الخيار كان رسالة صامتة للعالم: لا يمكن بناء المستقبل بتكديس الأسلحة، بل بتكديس المعرفة.
ومع ذلك، يبدو أن درس اليابان لم يصل إلى الجميع. في الوقت الذي يواجه فيه العالم صراعات متزايدة، تستمر سباقات التسلح كأن هيروشيما وناجازاكي لم تترك أي أثر في الذاكرة الجماعية. ما زالت بعض القوى تسعى إلى بناء ترسانات عسكرية هائلة، وكأن هذه الأسلحة ستضمن سلاما مستداما.
الحقيقة المريرة هي أن كل سلاح جديد يخلق بذورًا لصراع جديد. ربما تحقق القوة العسكرية مكاسب سريعة، لكنها ليست ضمانا لمستقبل مستقر. ما لا يدركه الكثيرون هو أن القوة الحقيقية تكمن في التواصل الإنساني، في بناء جسور العمل المشترك، لا في إلقاء المزيد من القنابل.
الناجون ليسوا مجرد أرقام في كتب التاريخ. إنهم أحياء بيننا، يحملون قصصا لا تنسى.
يقول أحد الناجين: «في تلك اللحظة، شعرت أن كل شيء انتهى. لكن مع مرور السنين، أدركت أن البقاء ليس انتصارًا لنا وحدنا، بل هو فرصة لنجعل العالم مكانا أفضل.
إن حكاياتهم ليست مجرد سرد لتجربة شخصية، بل هي دعوة للعالم إلى التفكر في قيمة السلام. ما مروا به هو تذكير دائم بأن الحياة العادية التي نأخذها كأمر مفروغ منه، العمل، اللعب، قضاء الوقت مع العائلة، يمكن أن تختفي في لحظة واحدة، إذا لم نحرص على حماية قيم السلام.
منح جائزة نوبل للسلام لمنظمة «نيهون هيدانكيو» لا يقتصر على تكريم الماضي، بل هو تذكير دائم بأن العالم لا يمكن أن يواصل السير في طريق التدمير.
إن الرسالة واضحة: البشرية يجب أن تتجنب سباق التسلح ودفع الثمن. اليوم، نحن مطالبون بإعادة النظر في القيم التي نقيم عليها عالمنا. هل سنختار القوة المدمرة، أم نبني مستقبلا يقوم على التعاون والشراكة؟
في النهاية، لا يمكننا تجاهل الحقائق. العالم يقف عند مفترق طرق. إذا استمر في الاعتماد على الأسلحة كوسيلة لحل النزاعات، فإن المعاناة ستكون حتمية.
لكن إذا اختار التواصل والتفاهم من أجل التعايش بسلام، فقد يجد طريقا للعيش المشترك بكرامة. فالسلام ليس رفاهية، بل هو أساس الحياة نفسها. كل خطوة نحو السلام هي خطوة نحو الحفاظ على إنسانيتنا.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك