العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

جائزة نوبل للسلام 2024.. دعوة إلى إنهاء سباق الدمار

بقلم: نبيلة رجب

الاثنين ٢١ أكتوبر ٢٠٢٤ - 02:00

منحت‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للسلام‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬لمنظمة‭ ‬‮«‬نيهون‭ ‬هيدانكيو‮»‬‭ ‬اليابانية،‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬الناجين‭ ‬من‭ ‬القصف‭ ‬الذري‭ ‬الذي‭ ‬دمر‭ ‬مدينتي‭ ‬هيروشيما‭ ‬وناجازاكي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1945‭. ‬هذا‭ ‬التكريم‭ ‬تذكير‭ ‬حي‭ ‬بالقدرة‭ ‬البشرية‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬أقسى‭ ‬تجارب‭ ‬الألم‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬السلام،‭ ‬ورسالة‭ ‬واضحة‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬آثار‭ ‬الحروب‭ ‬المدمرة‭ ‬والمضي‭ ‬قدما‭ ‬نحو‭ ‬عالم‭ ‬أكثر‭ ‬أمانا‭.‬

في‭ ‬صباح‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬أغسطس‭ ‬1945،‭ ‬كانت‭ ‬شوارع‭ ‬هيروشيما‭ ‬مليئة‭ ‬بالحياة‭. ‬العمال‭ ‬كانوا‭ ‬يتوجهون‭ ‬إلى‭ ‬وظائفهم،‭ ‬الأطفال‭ ‬يهرولون‭ ‬نحو‭ ‬المدارس،‭ ‬والبائعون‭ ‬يعدون‭ ‬بضاعتهم‭. ‬

امرأة‭ ‬كانت‭ ‬تسقي‭ ‬أزهار‭ ‬حديقتها،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تعلم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬البسيطة‭ ‬ستصبح‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬تفعله‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬اليومية‭. ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬واحدة،‭ ‬تحولت‭ ‬تلك‭ ‬الحياة‭ ‬المليئة‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬الصغيرة‭ ‬إلى‭ ‬رماد؛‭ ‬سحابة‭ ‬سوداء‭ ‬عملاقة‭ ‬غطت‭ ‬المدينة،‭ ‬وجرفت‭ ‬معها‭ ‬الضحكات‭ ‬والآمال‭.‬

لكن‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬لم‭ ‬تنه‭ ‬حياة‭ ‬الناجين‭. ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الاستسلام‭ ‬للحزن،‭ ‬اختاروا‭ ‬نقل‭ ‬تجربتهم‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭. ‬

من‭ ‬خلال‭ ‬منظمة‭ ‬‮«‬نيهون‭ ‬هيدانكيو‮»‬،‭ ‬أصبح‭ ‬الناجون‭ ‬أصواتا‭ ‬شاهدة‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬الأسلحة‭ ‬النووية‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هدفهم‭ ‬فقط‭ ‬سرد‭ ‬حكايات‭ ‬الدمار،‭ ‬بل‭ ‬تحذير‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬ارتكاب‭ ‬نفس‭ ‬الخطأ‭. ‬هؤلاء‭ ‬الناجون،‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬وسط‭ ‬أشباح‭ ‬ماضيهم،‭ ‬لا‭ ‬يطالبون‭ ‬بالثأر،‭ ‬بل‭ ‬بالسلام‭. ‬رسالتهم‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬بسيطة،‭ ‬لكنها‭ ‬عميقة‭: ‬الأسلحة‭ ‬النووية‭ ‬تهدد‭ ‬مستقبلنا‭ ‬جميعا‭.‬

اليابان‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬بماضيها‭ ‬المأساوي‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬بنهضتها‭. ‬بعد‭ ‬الحرب،‭ ‬كان‭ ‬بإمكان‭ ‬اليابانيين‭ ‬اختيار‭ ‬طريق‭ ‬الانتقام‭ ‬والغضب‭. ‬لكنهم،‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬ركزوا‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬مجتمعهم‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬معتمدين‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬والتعليم‭. ‬كان‭ ‬قرارهم‭ ‬واضحا‭: ‬الحروب‭ ‬لا‭ ‬تصنع‭ ‬مجتمعات‭ ‬قوية‭. ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬ولدت‭ ‬اليابان‭ ‬الحديثة،‭ ‬كدولة‭ ‬تحمل‭ ‬نموذجا‭ ‬للعالم،‭ ‬ليس‭ ‬بقوتها‭ ‬العسكرية،‭ ‬بل‭ ‬بقوة‭ ‬تعليمها‭ ‬وابتكاراتها‭.‬

رغم‭ ‬أن‭ ‬هيروشيما‭ ‬وناجازاكي‭ ‬كانتا‭ ‬شاهدتين‭ ‬على‭ ‬أسوأ‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬للبشرية‭ ‬أن‭ ‬تفعله،‭ ‬فإن‭ ‬اليابان‭ ‬اختارت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شاهدة‭ ‬على‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬للبشرية‭ ‬تحقيقه‭. ‬هذا‭ ‬الخيار‭ ‬كان‭ ‬رسالة‭ ‬صامتة‭ ‬للعالم‭: ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬بناء‭ ‬المستقبل‭ ‬بتكديس‭ ‬الأسلحة،‭ ‬بل‭ ‬بتكديس‭ ‬المعرفة‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬درس‭ ‬اليابان‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الجميع‭. ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬فيه‭ ‬العالم‭ ‬صراعات‭ ‬متزايدة،‭ ‬تستمر‭ ‬سباقات‭ ‬التسلح‭ ‬كأن‭ ‬هيروشيما‭ ‬وناجازاكي‭ ‬لم‭ ‬تترك‭ ‬أي‭ ‬أثر‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجماعية‭. ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬بعض‭ ‬القوى‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬ترسانات‭ ‬عسكرية‭ ‬هائلة،‭ ‬وكأن‭ ‬هذه‭ ‬الأسلحة‭ ‬ستضمن‭ ‬سلاما‭ ‬مستداما‭.‬

الحقيقة‭ ‬المريرة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬سلاح‭ ‬جديد‭ ‬يخلق‭ ‬بذورًا‭ ‬لصراع‭ ‬جديد‭. ‬ربما‭ ‬تحقق‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬مكاسب‭ ‬سريعة،‭ ‬لكنها‭ ‬ليست‭ ‬ضمانا‭ ‬لمستقبل‭ ‬مستقر‭. ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يدركه‭ ‬الكثيرون‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬القوة‭ ‬الحقيقية‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬التواصل‭ ‬الإنساني،‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬جسور‭ ‬العمل‭ ‬المشترك،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬إلقاء‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬القنابل‭.‬

الناجون‭ ‬ليسوا‭ ‬مجرد‭ ‬أرقام‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭. ‬إنهم‭ ‬أحياء‭ ‬بيننا،‭ ‬يحملون‭ ‬قصصا‭ ‬لا‭ ‬تنسى‭. ‬

يقول‭ ‬أحد‭ ‬الناجين‭: ‬‮«‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬شعرت‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬انتهى‭. ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬السنين،‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬البقاء‭ ‬ليس‭ ‬انتصارًا‭ ‬لنا‭ ‬وحدنا،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬فرصة‭ ‬لنجعل‭ ‬العالم‭ ‬مكانا‭ ‬أفضل‭.‬

إن‭ ‬حكاياتهم‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬سرد‭ ‬لتجربة‭ ‬شخصية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬دعوة‭ ‬للعالم‭ ‬إلى‭ ‬التفكر‭ ‬في‭ ‬قيمة‭ ‬السلام‭. ‬ما‭ ‬مروا‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬تذكير‭ ‬دائم‭ ‬بأن‭ ‬الحياة‭ ‬العادية‭ ‬التي‭ ‬نأخذها‭ ‬كأمر‭ ‬مفروغ‭ ‬منه،‭ ‬العمل،‭ ‬اللعب،‭ ‬قضاء‭ ‬الوقت‭ ‬مع‭ ‬العائلة،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تختفي‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬واحدة،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬نحرص‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬قيم‭ ‬السلام‭.‬

منح‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للسلام‭ ‬لمنظمة‭ ‬‮«‬نيهون‭ ‬هيدانكيو‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬تكريم‭ ‬الماضي،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬تذكير‭ ‬دائم‭ ‬بأن‭ ‬العالم‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يواصل‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬التدمير‭. ‬

إن‭ ‬الرسالة‭ ‬واضحة‭: ‬البشرية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتجنب‭ ‬سباق‭ ‬التسلح‭ ‬ودفع‭ ‬الثمن‭. ‬اليوم،‭ ‬نحن‭ ‬مطالبون‭ ‬بإعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬نقيم‭ ‬عليها‭ ‬عالمنا‭. ‬هل‭ ‬سنختار‭ ‬القوة‭ ‬المدمرة،‭ ‬أم‭ ‬نبني‭ ‬مستقبلا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التعاون‭ ‬والشراكة؟

في‭ ‬النهاية،‭ ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬تجاهل‭ ‬الحقائق‭. ‬العالم‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬مفترق‭ ‬طرق‭. ‬إذا‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الأسلحة‭ ‬كوسيلة‭ ‬لحل‭ ‬النزاعات،‭ ‬فإن‭ ‬المعاناة‭ ‬ستكون‭ ‬حتمية‭. ‬

لكن‭ ‬إذا‭ ‬اختار‭ ‬التواصل‭ ‬والتفاهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التعايش‭ ‬بسلام،‭ ‬فقد‭ ‬يجد‭ ‬طريقا‭ ‬للعيش‭ ‬المشترك‭ ‬بكرامة‭. ‬فالسلام‭ ‬ليس‭ ‬رفاهية،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها‭. ‬كل‭ ‬خطوة‭ ‬نحو‭ ‬السلام‭ ‬هي‭ ‬خطوة‭ ‬نحو‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬إنسانيتنا‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com‭ ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا