في السادس عشر من أكتوبر 2024 استضافت العاصمة البلجيكية بروكسيل أول قمة تجمع بين الاتحاد الأوروبي وشركائه من دول مجلس التعاون الست، القمة التي شهدت حضورا خليجيا رفيع المستوى من الدول الست، بالإضافة إلى الأمين العام لمجلس التعاون، وكان العنوان العام للبيان الختامي هو «التزام التكتلين ببناء شراكة استراتيجية مبنية على الاحترام المتبادل والثقة»، صحيح أن انعقاد أول قمة تضم الجانبين حدث مهم ليس فقط في المضمون ولكن في التوقيت أيضاً الذي يتزامن والتحولات العالمية والإقليمية غير المسبوقة التي تلقي بظلالها على أولويات كل طرف وشراكاته.
علاقات الاتحاد الأوروبي ودول الخليج تمتد لعقود مضت كان بدايتها توقيع الطرفين اتفاقية للتعاون عام 1988، التي كان أحد أهدافها التوصل الى اتفاقية تجارة حرة بين الجانبين، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن حيث تم تعليق المفاوضات بين الجانبين أكثر من عشر سنوات لتعود مرة أخرى، والأمر المثير للتساؤل هو أنه بالرغم من أن الاتحاد الأوروبي هو الأقرب لدول الخليج العربي جغرافيا مقارنة بالشركاء الدوليين الآخرين ، فضلاً عن انتهاج الصيغة الجماعية للمفاوضات مع دول الخليج العربي كتكتل واحد من خلال مجلس التعاون، بالإضافة الى الاتساق بين مبادئ السياسة الخارجية للخليج والاتحاد من حيث حل الصراعات بالوسائل السلمية وعدم اللجوء الى الخيار العسكري، فإن مسار الشراكة بين الجانبين لم يسر بالشكل ذاته مقارنة بالشراكات الدولية الأخرى، ربما أدرك الاتحاد الأوروبي ضرورة صياغة استراتيجية شاملة، وهو ما تمثل في استراتيجية الشراكة مع دول الخليج العربي التي تم إطلاقها في مايو 2022 وصولاً الى انعقاد القمة الأولى إلا أن الوصول الى الشراكة الاستراتيجية بأبعادها المختلفة ربما يحتاج الى وقت مع الأخذ بالاعتبار ثلاثة عوامل أولها: هناك مساران للعمل الأوروبي لهما تأثير على تلك الشراكة، مسار الاتحاد الأوروبي كتنظيم إقليمي ومسار ثنائي هو علاقات الدول الأوروبية بدول الخليج بشكل ثنائي، وثانيها: أن الشراكات بالرغم من أهميتها لكنها لا تعمل في فراغ، فالاتحاد الأوروبي ليس هو الشريك الدولي الوحيد في منطقة الخليج فهناك احتدام للتنافس الدولي على المنطقة بعيداً عن المنظور العسكري والأمني فالاقتصاد الآن قاطرة السياسة، وثالثها: مع أهمية الشراكة ولكن في ظل الخصوصية السياسية والاجتماعية لدول الخليج العربي وهو ما يظهر في تباين وجهات النظر إزاء بعض القضايا.
وعود على ذي بدء ما بين استراتيجية شاملة موجهة لدول الخليج العربي عام 2022 وأول قمة بين الجانبين عام 2024: ماذا بعد؟ وهو تساؤل له وجاهته، صحيح أن المؤشرات تؤكد عزم الجانبين على المضي قدماً في تطوير تلك الشراكة إلى آفاق أرحب ومن ذلك إعلان المملكة العربية السعودية استعدادها لاستضافة القمة الثانية المقبلة في عام 2026 واستضافة الكويت الاجتماع الوزاري العام المقبل 2025 إلا أن ثمة تحديات يتعين مواجهتها منها كيفية استعادة الاتحاد الأوروبي مكانته كشريك تجاري أول لدول الخليج بعد الصين التي أصبحت الشريك التجاري الأول لدول الخليج منذ عام 2020، وكذلك الدور الذي يتعين على الاتحاد الأوروبي القيام به تجاه ملفات التوتر الإقليمي. فالمسألة ليست أمن الخليج العربي بمعناه الجغرافي فحسب أي الدول الست، ولكن الدائرة الإقليمية التي تزداد اشتعالاً وتحتاج إلى جهود دولية لجهة الحلول الدبلوماسية وللاتحاد الأوروبي خبرات في هذا الشأن، بالإضافة الى الجهود الإنسانية، فعلى سبيل المثال خصص الاتحاد الأوروبي في مايو 2024 حوالي 125 مليون يورو لمواجهة الاحتياجات الإنسانية للفئات الأكثر ضعفاً في اليمن وهي الجهود التي تتكامل مع نظيرتها الخليجية والسعودية على وجه خاص من خلال الإنجازات المتميزة لمركز الملك سلمان للإغاثة، بالإضافة الى الملف الإيراني النووي الذي لعبت فيه دول الاتحاد الأوروبي دوراً مهماً من خلال المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وصولاً إلى القضية الأهم برأيي وهي مدى إسهام الاتحاد الأوروبي في الحفاظ على أمن الخليج العربي، ولا يعني ذلك أن أوروبا كانت بعيدة عن منطقة الخليج العربي، بل كانت بعض الدول الأوروبية داعما أساسيا للعديد من التحالفات العسكرية التي قادتها الإدارات الأمريكية المختلفة لمواجهة أخطار مثلت تهديداً لأمن الخليج العربي، ولا يعني ذلك أن أوروبا مطلوب منها العمل بشكل مستقل عن الجانب الأمريكي ولكن في ظل التحولات الإقليمية الراهنة وزيادة الحاجة الى أطراف دولية لنزع فتيل التوتر وممارسة قدر من الردع يبدو للدور الأوروبي وجاهته وأهميته ومن ذلك تهديدات الأمن البحري، صحيح أن أوروبا استجابت لمواجهة تلك التهديدات ثلاث مرات وهي قبالة سواحل الصومال وفي مضيق هرمز وفي البحر الأحمر وباب المندب من خلال ثلاث بعثات ولكنها بدت رمزية بعيداً عن تحقيق هدف الردع.
ومع أهمية ما سبق، فإن الشراكة المجتمعية تبقى لها أهميتها خاصة لجهة تعزيز الصورة الذهنية المتبادلة والتعرف بشكل أعمق على تطور المجتمعات في الجانبين. ومن هنا، فإن مطلب إلغاء تأشيرة الاتحاد الأوروبي لأبناء دول الخليج العربي يظل له أهميته ووجاهته في ظل حذو بعض الدول الأخرى الكبرى المسار ذاته.
دول الخليج لا تعارض المدخل الاقتصادي لتطوير شراكاتها مع الاتحاد الأوروبي، ولكن في الوقت ذاته لا بد من تفهم الاتحاد الأولويات الأمنية منها سعي دول الخليج للحصول على التكنولوجيا، وخاصة العسكرية في ظل تأثير تلك التكنولوجيا على جهود التسلح التقليدية في الخليج، من ناحية ثانية خبرات الاتحاد الأوروبي في مجال الأمن السيبراني تبدو لها أهميتها في ظل التحول الرقمي الهائل في دول الخليج العربي، بالإضافة الى متطلبات تطوير القدرات الأمنية والعسكرية في إدارة الأزمات والكوارث المتوقعة وخاصة في البحار، ولا شك أن حواراً استراتيجياً مستمراً بين الجانبين وتحديد نقاط الاتفاق والاختلاف وأولويات الجانبين، بل قدرة دول الخليج العربي ذاتها على الاستفادة مما يقدمه الاتحاد الأوروبي بشكل جماعي تبقى جميعها محددات مهمة لتفعيل تلك الشراكة.
ومجمل القول، إن مأسسة الشراكة من خلال قمم دورية – وإن كان أمراً متأخراً – بعض الشيء ولكنه خطوة مهمة، يضاف إلى ذلك وضع أطر زمنية لتحقيق ما يصبو إليه الطرفان، فقائمة الشراكة تطول ولكن مسألة الأولويات للجانبين تعد أمرا مهما، وخاصة في ظل التحولات المتسارعة على المستويين العالمي والإقليمي بل ونتائج الانتخابات الأوروبية ذاتها، والتي وإن أتاحت الفرص لنمو تلك الشراكة، فإنها تفرض تحديات في الوقت ذاته.
أوروبا شريك استراتيجي مهم لدول الخليج كتكل إقليمي ولكن ما بين مضامين الشراكة وآليات تنفيذها مراحل عديدة يتعين تحديدها والعمل عليها من الجانبين الآن وقبل أي وقت مضى.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك