إن الرواية الرسمية للجيش الإسرائيلي عن سبب استهدافه المناطق المدنية أثناء القصف المكثف والمميت في 20 سبتمبر على جنوب لبنان هي أن اللبنانيين يخفون قاذفات الصواريخ بعيدة المدى في منازلهم.
وكان المقصود من هذا التفسير الرسمي للجيش الإسرائيلي تبرير مقتل 492 شخصًا وإصابة 1645 آخرين في يوم واحد من الضربات الإسرائيلية.
وهذا التفسير الجاهز سيرافقنا طوال الحرب الإسرائيلية في لبنان، مهما طال الزمن. وتستشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية الآن بشكل كبير بهذه الادعاءات، وبالتالي تحذو حذوها وسائل الإعلام الأمريكية والغربية.
ضع ذلك في اعتبارك عندما تفكر في التصريحات السابقة التي أدلى بها الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ في يوم 13 أكتوبر2023 عندما قال إنه لا يوجد مدنيون في غزة وإن هناك شعبا بأكمله مسؤول.
وهذا ما تفعله إسرائيل في كل حرب تشنها ضد أي دولة فلسطينية أو عربية. فبدلاً من إزالة المدنيين والبنى التحتية المدنية من مجموعة أهدافها، فإنها تحول السكان المدنيين على الفور إلى الأهداف الرئيسية لحربها.
إن إلقاء نظرة سريعة على عدد المدنيين الذين قتلوا في الحرب المستمرة والإبادة الجماعية في غزة ينبغي أن يكون كافيا لإثبات أن إسرائيل تستهدف الناس العاديين كأمر طبيعي في تكتيكاتها الحربية.
وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، يشكل الأطفال والنساء النسبة الأكبر من ضحايا الحرب بنسبة 69%.
وإذا أخذنا في الاعتبار عدد الذكور البالغين الذين قتلوا - وهو عدد يشمل الأطباء والمسعفين والعاملين في الدفاع المدني والعديد من الفئات الأخرى - فسوف يصبح من الواضح أن الغالبية العظمى من جميع الضحايا في غزة هم من المدنيين.
وحدها وسائل الإعلام الإسرائيلية، وحلفاؤها في الغرب، هي التي تستمر في إيجاد مبررات لقتل المدنيين الفلسطينيين، والآن المدنيون اللبنانيون، بأعداد كبيرة.
قارن بين التصريحين التاليين، اللذين حظيا باهتمام إعلامي كبير، للناطق العسكري الإسرائيلي دانييل هاغاري، فيما يتعلق بكل من قطاع غزة ولبنان.
وقال هاجاري في تصريج له بتاريخ 25 مارس 2024: إن حماس تستخدم المستشفيات بشكل منهجي لشن الحرب وتستخدم سكان غزة باستمرار كدروع بشرية.
وقال في 27 سبتمبر الماضي إن مقرات حزب الله الإرهابية تم بناؤها عمدا تحت المباني السكنية في قلب بيروت، كجزء من استراتيجية حزب الله باستخدام الدروع البشرية.
بالنسبة إلى أولئك الذين يمنحون هاجاري قرينة الشك، فما عليهم سوى مراجعة ما حدث في غزة في العام الماضي.
وعلى سبيل المثال، زعمت إسرائيل أن مذبحة المستشفى الأهلي المعمداني لم تكن هي من ارتكبها، وأن صاروخاً فلسطينياً هو الذي أدى إلى مقتل ما يقرب من خمسمائة من اللاجئين النازحين وإصابة مئات آخرين في السابع عشر من أكتوبر 2023.
خلصت كل الأدلة، بما في ذلك التحقيقات التي أجرتها جماعات حقوقية محترمة، إلى عكس ذلك. ومع ذلك، حظيت الادعاءات الإسرائيلية الكاذبة بتغطية إعلامية كبيرة.
تكررت حادثة المستشفى المعمداني عدة مرات. في الواقع، بدأت الأكاذيب في 7 أكتوبر2023، وليس 17 أكتوبر، عندما أطلقت إسرائيل ادعاءات بشأن أطفال مقطوعي الرأس وأعمال اغتصاب جماعي.
وعلى الرغم من أن الكثير من ذلك قد ثبت بشكل قاطع خطأه، فإن البعض في وسائل الإعلام، والمسؤولين المؤيدين لإسرائيل، يواصلون الحديث عنه كحقيقة مثبتة.
وعلى الرغم من أنه لم يتم العثور على أي مقر لحماس تحت مستشفى الشفاء، إلا أن الادعاءات الإسرائيلية التي لا أساس لها من الصحة لا تزال تتكرر وكأنها الحقيقة الكاملة والثابتة.
والآن يجري تطبيق المنطق نفسه على لبنان، حيث تزعم إسرائيل أنها لا تستهدف المدنيين، وعندما يُقتل مدنيون، فإن اللبنانيين أنفسهم هم الذين ينبغي إلقاء اللوم عليهم لاستخدامهم المدنيين دروعا بشرية.
إن التكتيكات نفسها التي تستخدم في غزة أصبحت تطبق في لبنان. وبطبيعة الحال، كثيرون يتلاعبون، ليس لأنهم غير عقلانيين أو غير قادرين على التوصل إلى استنتاجات سليمة استنادا إلى الأدلة الواضحة. إنهم يفعلون ذلك لأنهم جزء من الرواية الإسرائيلية، وليسوا رواة قصص محايدين أو مراسلين صادقين.
وحتى أمثال هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) تشكل جزءًا من هذه الرواية، حيث تستخدم المزاعم الإسرائيلية كنقطة انطلاق لأي محادثة حول فلسطين أو لبنان. على سبيل المثال، قالت إسرائيل إنها نفذت موجة من الضربات الاستباقية في جميع أنحاء جنوب لبنان لإحباط هجوم واسع النطاق بالصواريخ والطائرات من دون طيار من قبل حزب الله، بحسب ما ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية في يوم 26 أغسطس الماضي.
تفلت إسرائيل دائما من أكاذيبها المتعلقة بعمليات القتل الجماعي في قطاع غزة، والآن للأسف في لبنان، لأن الدعاية الإسرائيلية موضع ترحيب، في الواقع، يتبناها المسؤولون والصحفيون الغربيون.
وهكذا، عندما وصف مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان الغارات الجوية التي شنت بتاريخ20 سبتمبر الماضي على لبنان بأنها تحقيق العدالة، كان يشير لوسائل الإعلام الرئيسية إلى أن تغطيتها يجب أن تظل ملتزمة بهذا التقييم الرسمي.
تخيل مدى الغضب إذا تم قلب الطاولة، كما حدث عندما يذبح الآلاف من المدنيين الإسرائيليين في منازلهم بسبب القنابل اللبنانية. ولن تكون هناك حاجة إلى الحديث عن ردود أفعال وسائل الإعلام الأمريكية أو الغربية، لأن هذا يجب أن يكون واضحًا لأي شخص يبدي اهتمامه.
إن لبنان دولة عربية ذات سيادة، كما أن قطاع غزة أرض محتلة، وشعبها محمي بموجب اتفاقيات جنيف الرابعة. إن حياة اللبنانيين أو الفلسطينيين ذات قيمة، ولا ينبغي السماح بارتكاب أعمال قتل جماعي في حقهم لأي سبب من الأسباب، لا سيما بناءً على أكاذيب مطلقة صادرة عن متحدث عسكري إسرائيلي.
إن الاستمرار في سرد الأكاذيب الإسرائيلية أمر يكتسي خطورة كبيرة، ليس فقط لأن قول الحقيقة فضيلة، بل لأن الكلمات تقتل أيضاً، كما أن التقارير المجحفة وغير النزيهة من الممكن أن تنجح في الواقع في تبرير الإبادة الجماعية.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك