جاء افتتاح دور الانعقاد الثالث من الفصل التشريعي السادس لمجلسي النواب والشورى (المجلس الوطني)، يوم 13 أكتوبر 2024، ليمثل انتظامًا لمسيرة العملية الديمقراطية في مملكة البحرين منذ انطلاقها قبل نحو 25 عامًا، وإنجازًا لميثاق العمل الوطني، وتحول البحرين إلى مملكة دستورية، حيث كانت بداية تلك الفصول التشريعية في عام 2002، مرورًا بـ 2006، و2010، و2014، و2018، و2022، وفي كل دورة كانت هذه العملية تشهد نضوجًا عن سابقتها.
ومع انطلاق كل دورة تشريعية جديدة، يحرص جلالة الملك، على إلقاء خطاب تشريعي يشكل وثيقة بالغة الأهمية، تكون مضامينه نبراسًا هاديًا لأجهزة الدولة، ولعمل كلا المجلسين اللذين يقومان بتشكيل لجنة لتحليله. وفي ظل تزامن هذا الانعقاد مع مرحلة حساسة تعيشها المنطقة، ما يزيد من التحديات التي تواجهها الدول؛ فقد تناول الخطاب السامي العديد من القضايا المحورية التي تتعلق بالشأنين الداخلي والخارجي.
وفي خطابه، وضع جلالة الملك، خريطة طريق، واضحة للسلطة التشريعية، داعيا إياها إلى المساهمة في تحقيق الإنجازات الوطنية من خلال سن تشريعات تعزز الوحدة والعدالة، وترجمة الرؤى الملكية إلى أدوات ومبادرات ملموسة، كما وجه السلطات للقيام بدراسة متكاملة لتحقيق التوازن بين الجانبين المادي والثقافي في التنمية، بما يضمن الحفاظ على الهوية الوطنية. علاوة على ذلك، شدد على الانتقال من رؤية البحرين الاقتصادية 2030، إلى رؤية 2050، مع التركيز على استثمار الذكاء الاصطناعي لتعظيم الفوائد وتجنب المخاطر.
في الشأن الداخلي، ركز الخطاب الملكي على مجموعة من القيم والمبادئ الأساسية التي تحكم السياسة الداخلية للبحرين، وأبرزها الهوية الوطنية، الوحدة، الاستقرار، والعدالة. وعليه، دعا أعضاء المجلس الوطني، إلى الالتزام بهذه القيم أثناء تأدية مهامهم التشريعية. كما أكد الحفاظ على البحرين كنموذج حضاري، يحمي الحقوق ويصون الحريات، مع الاستمرار في تعزيز العملية الديمقراطية برؤية منفتحة، تبني على التوافقات السابقة، وتضمن مستقبل البلاد ونهضتها الحضارية، مع مراعاة الأعراف والتقاليد الدستورية للمملكة، مشددا على التزامه الشخصي بهذه العملية، التي تجسد الإرادة المشتركة للشعب البحريني.
وتحقيقا لهذه الغاية، أكد أن استمرارية الديمقراطية، تعد ضرورة حتمية، لصيانة المصالح الوطنية العليا في ظل دولة المؤسسات والقانون، مشيرا إلى أن الإنجازات التنموية التي تحققت، وما شهدته من توافق شعبي، أصبحت مصدر فخر ودافعا لتحقيق المزيد من التقدم والازدهار، وأن ما تحقق من إنجازات تنموية كان نتيجة للالتزام بالعمل بروح الفريق، سواء داخل السلطة التنفيذية، أو في التعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، هذا فضلاً عن انتهاج أفضل الممارسات الإدارية والتنظيمية، وضمان أجود الخدمات الحكومية.
ولأن التنمية بمعناها الشامل لا تتحقق دون رؤية واضحة، واستراتيجية طموحة؛ فقد غدت رؤية البحرين الاقتصادية 2030، التي قادت البلاد منذ انطلاقها في 2008، تشكل جزءًا من رؤيتها المستقبلية 2050، ما يدل على توجه ملكي يؤمن بأن التخطيط للمستقبل لا يتوقف عند حدود الحاضر، بل يمتد ليشمل الأجيال القادمة، حيث تركز الملامح الأولية لرؤية 2050 على الابتكار والتكنولوجيا والتقدم العلمي. وبينما يتعين على أجهزة الدولة استكمال تنفيذ ما تبقى من الرؤية الاقتصادية 2030، سواء من جهة خطة التعافي الاقتصادي 2022 – 2026، أو تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030؛ فإن نسخة 2050 تحتوي على تصور متجدد لمستقبل البلاد والأجيال القادمة، وتعزز موقع المملكة كدولة ذات نهضة عصرية تلتزم بقيم شريعتها الإسلامية.
وبهذا المعنى، عد جلالة الملك الهوية الوطنية، والروابط القومية، عنصرًا أصيلاً في التنمية الشاملة والتربية الوطنية المبكرة، وهنا ربط الخطاب الملكي بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على الهوية، في زمن يزداد فيه الانفتاح العالمي، ويصبح التحدي الأكبر هو الحفاظ على الخصوصية. وعليه، ومن أجل تحقيق هذه الرؤية وجه الجهات المختصة لإجراء دراسة متكاملة لضمان التوازن بين متطلبات الانفتاح والتجديد، واشتراطات حماية الأمن الوطني.
وفي رؤيته، أن البحرين ليست مجرد دولة تسعى لتحقيق التقدم المادي فقط، بل هي تدرك أهمية الحفاظ على قيمها وتراثها، وهو يرى أن التقدم الحقيقي لا يتحقق دون هذا التوازن الذي يمثل السند المنيع في وجه التحديات، وأن الانفتاح مهما كانت أثاره الإيجابية على جميع الصعد إلا أنه يجب ضمان ألا يؤثر بأي شكل من الأشكال على أمن البحرين الوطني، الذي تعد الهوية الوطنية، جزءًا أساسيا منه.
بالإضافة إلى ذلك، اعتمد مفهومًا شاملاً للأمن الوطني، ليشمل ليس فقط الجوانب السياسية والعسكرية، بل أيضا الأمن الغذائي، وأمن الثروات الطبيعية والاستثمارات، إلى جانب الأمن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وأمن المعلومات والاتصالات. وبشكل خاص، ركز على الجانب الاقتصادي، مشيرًا إلى أهمية تأمين الثروات الطبيعية واستثمارها؛ لضمان النمو المستدام، وكذلك الأمن الغذائي. وفي الوقت الذي أشاد فيه بما تحقق في هذين المجالين، دعا إلى تعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي في القطاعات الحيوية، وفق المعايير والنظم اللازمة لتحقيق عوائد ملموسة تعود بالفائدة على الجميع. ولتعزيز هذا الأمن الشامل، أكد مواصلة المملكة نهجها التنموي، وبناءها الحضاري، مدعومة بعزيمة وطنية لقواها العاملة في كل من القطاعين المدني والعسكري، الذين قدموا نماذج ملهمة في التضحية لحماية الوطن ومكتسباته.
وعلى الرغم من ذلك، أوضح أن أقوى ما يضمن السلامة الوطنية وقوة ومناعة المجتمع البحريني، مهما تعاظمت المخاطر، هو وحدته الوطنية ووعيه بها، فهذه الوحدة هي التي أتاحت للمملكة تجاوز الأزمات التي واجهتها، وحققت من خلالها إنجازات تنموية مشهودة. وبناءً على ذلك، وجه السلطة التشريعية للعمل على سن وتطوير التشريعات التي تدعم قيم الوحدة والعدالة، وتضمن استمرار مسيرة التنمية الشاملة لتوريثها من جيل إلى جيل.
ولتعزيز الجهود التي تقوم بها البحرين في جميع المجالات، أشاد بالإنجازات الرياضية الأخيرة، متمثلة في حصول المملكة على عدد غير مسبوق من الجوائز، وفوز سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة، ببطولة العالم لسباق القدرة 2024، وتحقيق الصدارة العربية في أولمبياد باريس 2024، ما يعد برهانًا للتميُّز الوطني.
وانتقالاً إلى القضايا الخارجية، جاء الخطاب معبرًا بشدة عن اللحظة الإقليمية والعالمية الراهنة، ليؤكد استمرار النهج البحريني في العمل على التوصل لحلول للقضايا الإقليمية والدولية. ولعل أبرز هذه الرسائل، هو اعتماد الدبلوماسية كنهج أساسي للتوصل إلى حلول جذرية للصراعات الإقليمية والدولية، والتمسك بالأعراف والقوانين الدولية، كوسيلة لتحقيق السلام العالمي، وتأكيد التضامن والتوافق العربي، بما يخدم القضايا الأساسية للأمة العربية، فضلا عن التأكيد على محورية القضية الفلسطينية، وتأكيد الدعم البحريني الثابت والراسخ للشعب الفلسطيني في الحصول على حقوقه المشروعة.
في ظل هذا الواقع، شدد على حاجة العالم الماسة في الوقت الراهن إلى استعادة السلام العالمي، مؤكدا التزام البحرين بالسعي الجاد لتحقيق خير الإنسانية، وتعزيز التقارب بين المجتمعات. وفي هذا السياق، دعا إلى الوقف الفوري للحرب في غزة، واستئناف المساعي الدبلوماسية من أجل التوصل إلى حلول سلمية دائمة، بما يحقق السلام العادل، ويضمن تطبيق حل الدولتين، واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك إقامة دولته المستقلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وفق قرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية.
ومع توسع رقعة الحرب لتشمل لبنان، أكد ضرورة فض الاشتباك في غزة بشكل عاجل، محذراً من خطورة الانجرار إلى حرب شاملة لا تُحمد عقباها. وفي هذا الإطار، أشار إلى دعوة البحرين خلال القمة العربية الثالثة والثلاثين التي استضافتها المنامة في مايو الماضي لعقد مؤتمر دولي موسع وعاجل، يعيد الأمل في تحقيق السلام المنشود، مؤكدا أن المملكة ستظل دائما سندا قويا لأشقائها وأصدقائها.
على العموم، يتضح من الخطاب الملكي، أن البحرين ماضية بثبات على درب الإصلاح والتنمية، مستندة إلى قيم الوحدة الوطنية والعدالة والاستقرار. وفي ظل التحديات الإقليمية والدولية، تبرز رؤية جلالة الملك لمستقبل البحرين كدولة عصرية ملتزمة بالتنمية المستدامة، وبناء مجتمع متماسك يُحافظ على هويته، ويواكب التقدم. كما تؤكد المملكة، دورها الفاعل في دعم القضايا العربية، في مقدمتها القضية الفلسطينية، مع سعيها الحثيث لتحقيق السلام والاستقرار، ليس فقط داخل حدودها، بل على مستوى المنطقة والعالم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك