لا جديد في أن لوبي إسرائيل في أمريكا صار منذ عقود أشد يمينية من أي وقت مضي. ولا جديد أيضًا في أن اللوبي تخلى منذ سنوات عن حرصه على أن يظل دعم إسرائيل عابرًا للحزبين، إذ صار أشد ارتباطًا بالحزب الجمهوري ويدعم مرشحيه في الانتخابات العامة. ولوبي إسرائيل هو عشرات الأفراد والمنظمات التي تضغط لتشكيل السياسة والرأي العام الأمريكيين على نحو ينحاز إلى إسرائيل.
لكن الجديد هو ما يجري بالمؤسسات اليهودية غير السياسية، فلوبي إسرائيل بمنظماته المختلفة لا يشكل كل المنظمات والجمعيات اليهودية بالولايات المتحدة، فهناك المئات من المؤسسات اليهودية ذات طابع غير سياسي، فهي مؤسسات ينشئها يهود ويعمل بها يهود أيضًا وتتعدد مجالات عملها، إذ تنخرط في قضايا كالعدل الاجتماعي والعنصرية والحريات المدنية، بينما تعمل بعضها في المجال التعليمي أو الديني أو تنخرط أخرى في قضايا مجتمعها المحلي.
والجديد هو أن تلك المؤسسات «غير السياسية» غدت، بعد 7 أكتوبر، أشد تسييسًا من أي وقت مضى، فقيادات الكثير منها صارت تعتبر دعم إسرائيل المعيار الرئيسي للتوظيف والترقي فيها، فقد كشفت بعض التقارير الصحفية عن وجود حالات بالجملة ليهود أمريكيين في تلك المؤسسات تم فصلهم أو أُجبروا على الاستقالة بسبب موقفهم من غزة، فالرافضون لجرائم إسرائيل في غزة والداعمون للفلسطينيين منهم هم الذين يتعرضون للفصل، الذي لا يتعلق فقط بالقيام بعمل محدد مناهض لإسرائيل، وإنما يكفي للكثير من تلك المنظمات أن يرتدي أحدهم الكوفية الفلسطينية أو يعبر عن مجرد موافقته على عبارات كُتبت على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، بل إن بعض تلك المؤسسات قالت لموظفيها علنًا إن التعاطف مع الفلسطينيين «سبب كافٍ للفصل من العمل».
وفي كل ذلك، لم تفرق تلك المنظمات بين مواقف الموظف المهنية، أي في موقع العمل ومواقفه الشخصية خارجها، إذ إن إسرائيل ليست أصلًا ذات علاقة بالمهام الوظيفية لهؤلاء الموظفين.
بعبارة أخرى، هم يحاسبون على مواقف يتخذونها في حياتهم الخاصة وخارج مواقع العمل. لكن الأمر لا يقف عند حد الفصل، إذ عادة ما تأتي معه رسالة لأعضاء الجمعية أو مجتمعها الصغير تتضمن تشهيرًا بمَن تعرض للفصل واتهامات بالجملة، منها مثلًا دعم حماس!
غير أن ما تفعله تلك المنظمات لا ينبع من موقف قوة، وإنما هو دليل ضعف، وصل إلى حد الهستيريا، فمع تصاعد الغضب العام في أمريكا تجاه المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة، صارت تلك المؤسسات، مثلها مثل اللوبي، تشعر بأن الأمور خرجت عن السيطرة.
والأخطر بالنسبة إليها أن هناك قطاعًا كبيرًا من اليهود الأمريكيين، وخصوصًا من الشباب، لعبوا أدوارًا مهمة في التظاهرات التي عمت الشوارع والجامعات الأمريكية احتجاجًا على الإبادة الجماعية الجارية في غزة. وليس سرًّا أن الكثير من هؤلاء اليهود الأمريكيين يرفضون الصهيونية أصلًا.
وهذا السلوك الذي يجسد الضعف، لا القوة، من شأنه أن يُعيد إنتاج نفسه في صورة المزيد من الضعف لتلك المؤسسات ذاتها، فلأن الأجيال الشابة من اليهود الأمريكيين أشد انتقادًا لإسرائيل، ولا يمانعون من أن يفعلوا ذلك علنًا، فإن تلك المؤسسات ستكون بالضرورة طاردة لهم.
أكثر من ذلك، فإن المؤسسات التعليمية، وتحديدًا المدارس الدينية، مدارس خاصة باهظة التكاليف. وإغلاق باب التوظيف في وجه اليهود الرافضين للصهيونية ليس فقط يعني الإحجام عن الالتحاق بتلك المدارس، وإنما يعني أيضًا فك ارتباط الأجيال الشابة، ودفعهم دفعًا بعيدًا عن هويتهم اليهودية ذاتها.
إن حرب الإبادة الدائرة في غزة سرَّعت من التطورات المتلاحقة التي يرجح أن تجعل الدفاع عن إسرائيل بأمريكا أكثر صعوبة على المدى الطويل. والملاحظ أن لوبي إسرائيل يخسر أرضية جديدة كل يوم. و«لوبي إسرائيل» هو عشرات المنظمات التي تعمل للتأثير على صنع السياسة وتشكيل الرأي العام لصالح إسرائيل.
فعند الشباب، إسرائيل دولة نووية أقوى من كل جيرانها، وهم أكثر حساسية تجاه انتهاكاتها المستمرة للقوانين الدولية والإنسانية. بعبارة أخرى، بات شباب اليهود منذ عقدين في مقدمة القوى الأمريكية التي فككت حكاية البعد الأخلاقي المزعوم. أما النسبة المعتبرة من الأجيال اليهودية الأكبر، فلديها شكوك في حكم اليمين الإسرائيلي. لذلك فإن التيار الأمريكي الأكثر دعمًا بلا شروط لإسرائيل هو أحد (وليس كل) قطاعات الأصولية المسيحية، أو ما يُعرف «بالصهيونية المسيحية». ورغم أنه من أكثر التيارات الأمريكية كرهًا لليهود، فإنه يدعم إسرائيل بلا شروط لأنه يؤمن أن وجودها وتجمع يهود العالم فيها شرط ضروري لعودة السيد المسيح ليحكم الأرض ألف عام.
في كل ما تقدم صار اللوبي يخلق بانتظام خصومًا جددًا. ثم جاءت حرب الإبادة الحالية التي يشهدها الأمريكيون بالصوت والصورة، فسقط القناع «الأخلاقي» تمامًا وبرز الوجه الحقيقي للاحتلال. ولم تعد المسألة تتوقف عند حدود شباب اليهود، إذ امتدت لغيرهم من شباب أرقى الجامعات، أي النخبة، وزاد نتنياهو الطين بلة بالتحريض عليهم، بينما سعى اللوبي لإرهابهم وإسكاتهم. فصار قطاع من النخبة الأمريكية خصومًا للوبي! وصار اللوبي الذي لا يزال يؤثر بقوة في صنع السياسة يحتاج إلى إنفاق أكبر بكثير لتحقيق ما يريد. باختصار، صار الدفاع عن إسرائيل يتطلب جهدًا أكبر بكثير من أي وقت مضى.
{ باحثة في العلوم السياسية
مختصة في الشؤون الأمريكية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك