على الرغم من أن مبدأ الحياد هو أحد مبادئ دول الخليج العربي تجاه التعامل مع الأزمات الأمنية الإقليمية التي شهدتها المنطقة خلال العقود الماضية فإن دول الخليج قد تجد ذاتها ضمن أحد تلك الأزمات لأسباب عديدة منها الموقع الاستراتيجي لتلك الدول الذي جعل منها مرتكزاً مهماً لإدارة تلك الأزمات، بالإضافة إلى كونها جارا للقوى الإقليمية التي دخلت في صراعات وخاصة إيران والعراق.
فخلال الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 والتي كان الهدف الرئيسي منها محاولة كل طرف تغيير توازن القوى القائم لصالحه كان موقف دول الخليج عدم الانحياز إلا أن ذلك لم يدم وفقاً لتطورات الحرب ذاتها وقد أصبحت دول الخليج جزءًا من ذلك الصراع مع بدء استهداف ناقلات النفط التي تخرج وتقصد الموانئ الخليجية مما اضطر دولة الكويت لرفع الأعلام الأمريكية على سفنها طلباً للحماية من تلك الاعتداءات، حيث تشير التقديرات إلى أن الهجمات المتبادلة على السفن بين العراق وإيران ما بين عامي 1984-1987 بلغت 30 هجمة منها 187 من جانب العراق و122 من جانب إيران، وكان التحدي هائلاً لدول الخليج العربي ليس أقلها تلوث البيئة البحرية حيث تشير التقديرات إلى تسرب حوالي 20 مليون برميل من النفط في مياه الخليج العربي مما أحدث بقعة تلوث تعادل حجم بلجيكا، فضلاً عن تهديد صادرات النفط الخليجية للأسواق العالمية آنذاك.
وخلال استهداف ناقلات النفط في الخليج العربي عامي 2019 و2021 والتي أعادت إلى الأذهان سيناريو حرب الناقلات في الثمانينيات سعت دول الخليج لمنع التصعيد وتجنب مواجهات ولكنها واجهت تحديات هائلة لاندلاع تلك التهديدات وزيادة حدتها وعدم وجود رد دولي حاسم آنذاك.
وخلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 سعت دول الخليج إلى تجنيب المنطقة تداعيات حرب جديدة إلا أن التطورات سارت في مسار الغزو وما رتبه من تداعيات أهمها الخلل في توازن القوى الإقليمي الذي يعد سبباً فيما تواجهه المنطقة من تحديات في الوقت الراهن.
وفي أعقاب اندلاع أحداث غزة في السابع من أكتوبر عام 2023 على الرغم من أن دول الخليج العربي ليست ضمن محيط المواجهة المباشرة ولكنها لعبت دوراً مهماً سواء من خلال الوساطة أو مخرجات القمة العربية الرابعة والثلاثين التي عقدت في البحرين في مايو 2024 والتي كان أبرزها تأكيد ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية.
وفي تقديري أن دول الخليج العربي سوف تستمر على النهج ذاته حيث يثار الحديث في الوقت الراهن حول مواقف دول الخليج من التطورات المتسارعة وخاصة المواجهات المحتدمة والهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، والتي تثير قلق كل دول المنطقة ومن ذلك الجولة التي قام بها عباس عراقجي وزير الخارجية الإيراني لبعض دول الخليج العربي الأسبوع الماضي، صحيح أن دول الخليج العربي أكدت غير ذي مرة أنها على الحياد ضمن تلك المواجهات والتطورات ولكن كما أشرت في العرض الموجز للخبرة التاريخية لدول الخليج في هذا الشأن أن مبدأ الحياد لا يدوم إلا إذا رغبت الأطراف المتصارعة في احترامه إلا أن الموقع الاستراتيجي لدول الخليج العربي وشراكاتها الاستراتيجية مع القوى الغربية الكبرى والتي تترجم من خلال اتفاقيات أمنية وتعاون عسكري مشترك يجعل دول الخليج في بؤرة تلك التفاعلات.
بمعنى آخر يتعين على دول الخليج الاستعداد لإدارة التطورات الأمنية الإقليمية، الجميع لا يتمنى الحرب أو المواجهات ودول الخليج ليست معنية بتلك المواجهات ولكن المسألة لا ترتبط بمجرد حرب بين طرفين ولكن فيما ترتبه على المنطقة والإقليم، فمن منظور استراتيجي فإن حدوث المزيد من الانهيارات الإقليمية ستكون له تبعات على أمن دول الخليج العربية، فما تعاني منه منطقة الخليج الآن هو نتيجة طبيعية لخلل توازن القوى الإقليمي الذي رتبه الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 والذي أدى إلى ظهور جماعات دون الدول سواء في العراق أو غيرها والتي ازداد نفوذها وأصبحت التحدي الهائل الآن سواء للدولة الوطنية الموحدة في دول الجوار أو منظومة الأمن الإقليمي برمتها، ولطالما أشرت في مقالاتي إلى أن دول الخليج العربي كدول صغرى ومتوسطة كان لديها هامش من المناورة في ظل وجود طرفين إقليميين متكافئ القوة على حدودها وهما العراق وإيران، ولكن حال ما تطورت الأحداث إلى المزيد من التوتر الإقليمي فإن ذلك سوف يكون له انعكاسات آنية وبعيدة المدى على منظومة الأمن الإقليمي كلها.
وفي تصوري أن دول الخليج العربي يجب أن تسير في مسارات متوازية للتعامل مع تلك التطورات أولها: إعادة التأكيد مراراً وتكراراً بأنها ليست طرفاً في أي صراعات إقليمية، وثانيها: الاستمرار في بذل جهود الوساطة لنزع فتيل المواجهات العسكرية الشاملة وتعكس الخبرة التاريخية قدرة دول الخليج على ممارسة ذلك الدور ومنها صدور قرار لمجلس الأمن في الثمانينيات بشأن ضرورة احترام حرية الملاحة البحرية في الخليج العربي، ولدول الخليج اتصالات مع كل الأطراف، وثالثها: ضرورة تفعيل التنسيق الخليجي من خلال مجلس التعاون لإبداء الجاهزية للتعامل مع أي حالات طارئة تستدعي موقفاً خليجياً جماعياً، ورابعها: تعزيز حماية المنشآت الحيوية في ظل حالة الاضطراب الإقليمي الراهنة، صحيح أن الاعتداء العسكري التقليدي أمر مستبعد إلا أنه مع تطور توظيف التكنولوجيا في المجال العسكري فإن ذلك يمثل تحدياً هائلاً ومن ذلك استمرار تهديد الحوثيين للملاحة البحرية في باب المندب والبحر الأحمر، وخامسها: استثمار علاقاتها الاستراتيجية مع الأطراف الدولية لممارسة الضغوط على أطراف الصراع لمنع التصعيد الذي سوف يطال مصالح الأطراف الإقليمية والدولية على حد سواء.
وبغض النظر عما ستؤول إليه التطورات الإقليمية الراهنة فإن دول الخليج العربي وإن استمرت في حيادها فإن تلك التطورات سيكون لها تأثير عميق على أمن الخليج العربي والأمن الإقليمي في ظل ثلاثة أمور أولها: علاقة التأثير والتأثر بين الخليج ومناطق جواره، وثانيها: انتهاء الحدود الفاصلة بين الأمن الوطني والإقليمي والعالمي، وثالثها: تأثير توظيف التكنولوجيا في المجال العسكري ودخول الجماعات دون الدول على خط التفاعلات الإقليمية بما يتطلب المزيد من التعاون والشراكات بين دول الخليج والأطراف العالمية.
ويبقى الأمر المهم هو كيفية الحفاظ على معادلة التوازن الإقليمي التي يؤسس عليها الأمن الإقليمي فتجارب الأمن الإقليمي الناجحة في العالم حتى بين دول تتباين في النظم السياسية والاقتصادية كان توازن القوى هو أساس بناء واستمرار الأمن الإقليمي.
دول الخليج التي أدارت أزمات أمنية إقليمية من قبل لديها خبرات تراكمية تمكنها من التعامل مع أي مستجدات أمنية إقليمية ترى أنها تهدد أمنها القومي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية
بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك