يستقطب الذكاء الاصطناعي العديد من الاهتمامات في المجالات كافة بل إنه أضحى العنوان الرئيسي للعديد من المؤتمرات لبحث تأثير تلك الثورة في جوانب حياتنا المختلفة والتي وإن تعددت فإن الجانب العسكري منها يحظى بأهمية بالغة لأسباب عدة منها أنه أصبح مؤشراً مهماً على قوة الدول وخاصة الكبرى التي استبدلت سباق التسلح التقليدي بتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، فعلى سبيل المثال في السوق الأمريكية من المتوقع أن ينمو الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري بمعدل نمو سنوي مركب 13,1% من عام 2022 إلى عام 2029 وهو معدل لافت ويعكس مدى اهتمام الولايات المتحدة بتلك التقنية وتطبيقاتها العسكرية، من ناحية ثانية فإن المتابع لمناطق الصراعات المختلفة من العالم يجد أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري تتصدر المشهد، بل هي السبب الرئيسي في إطالة أمد تلك الصراعات وربما تكون تلك التطورات معروفة للجميع والتي يجمعها أمرا مهما وهو تغير مكونات مفهوم الأمن القومي للدول وخاصة الصغرى والمتوسطة والتي كانت تعتمد على مشتريات الأسلحة لتعويض قدراتها البشرية المحدودة لجهة تأسيس جيوش كبيرة، ولكن التحدي الأكبر في تقديري هو مدى نجاح دول العالم في تقنين استخدام تلك التقنيات أو بالأحرى تحقيق التوازن بين الاستفادة منها والالتزام القانوني والأخلاقي بعدم خروج تلك الاستخدامات عن الأهداف المحددة لها.
العالم لم يقف مكتوف الأيدي أمام ذلك التحدي وكانت هناك محاولات في هذا الاتجاه ولكن كغيرها من القضايا الخلافية لم يتم التوافق بشأنها وربما يستغرق الأمر بعض الوقت كغيرها من القضايا التي استغرق النقاش بشأنها عقودا للتوصل لاتفاقيات دولية حولها ومنها الأمن البحري.
المحاولة الدولية الأولى كانت قمة دولية في أمستردام عام 2023 ولم يتم التوصل إلى اتفاق خطة العمل اللازمة لاستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول، والثانية كانت في 11 سبتمبر عام 2024 من خلال قمة عقدت في مدينة سول بكوريا الجنوبية وضمت أكثر من 90 دولة وقد استمرت على مدى يومين وكان واضحاً اختلاف مصالح الدول الكبرى في تلك القضية وتأثيره في فعاليات القمة، ففي الوقت الذي ساد فيه اتفاق دولي على أهمية وضع إطار قانوني ملزم بشأن استخدام تلك التقنيات في المجال العسكري بالنظر لسوء استخدامه في الصراعات الحالية نجد أن الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين أيدت مساراً معتدلاً في هذا الشأن ولكن دون التزام قانوني، إلا أنه على الرغم من ذلك التباين ثمة مؤشران إيجابيان أولهما: أن المناقشات حول تلك القضية ارتكزت على إطار قانوني جماعي مهم وهو اتفاقية الأسلحة المستقلة القاتلة عام 1983، وثانيهما: إعلان الولايات المتحدة حول الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي في المجال العسكري عام 2023 والذي أيدته 55 دولة حتى أغسطس 2024 ، ولعل الأمر المهم في القمة العالمية الثانية حول تلك القضية زيادة اهتمام القطاع الخاص والمنظمات الدولية والأكاديميين فقد شارك في تلك القمة حوالي 2000 شخص ممثلون لتلك المنظمات.
ومع أن الاجتماع لم يسفر عن تقدم ملموس أو بالأحرى ملزم للدول ولكن البيان الختامي يعكس مخاوف الدول حتى الكبرى منها بشأن تهديدات تلك الأسلحة وذلك من خلال ثلاثة مؤشرات مهمة المؤشر الأول: مطالبة المشاركين بالحفاظ على السيطرة البشرية على الاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي من خلال إرشادات تقييم المخاطر والشروط الأساسية اللازمة لذلك، والثاني: منع استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر أسلحة الدمار الشامل وخاصة من جانب الجماعات الإرهابية والثالث: أهمية المشاركة البشرية في استخدام الأسلحة النووية دون أن يتعارض ذلك مع هدف إخلاء العالم من تلك الأسلحة.
ولا شك أن تلك المحاولات تعكس جدية الدول حتى لو لم يتم التوصل إلى شيء ملموس حتى الآن ولكن فكرة الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي في المجال العسكري تحظى باهتمام دولي وخاصة من جانب الدول التي لديها تفوق في ذلك المجال لكنها تدرك في الوقت ذاته أن مخاطر التوظيف السيء لتلك التقنيات يهدد مصالحها الحيوية في مناطق مختلفة من العالم.
وفي تقديري أن الدول الصغرى والمتوسطة يجب أن تسهم وبقوة في تلك المناقشات من أجل التوصل إلى صياغة مبادئ دولية تكون مقدمة لاتفاقية شاملة في هذا الشأن لثلاثة أسباب أولها: إن التطورات المذهلة في تقنيات الذكاء الاصطناعي تهدد مفهوم سيادة الدول وخاصة أن الصغرى والمتوسطة والتي واجهت مخاطر من خلال استهداف منشآتها الحيوية من جانب جماعات دون الدول في دول الجوار وهنا أثير التساؤل على من تقع المسؤولية على تلك الجماعات؟ أم على الدول التي تستضيفها؟ بل والأهم كيف يمكن تحديد المسؤولية عن تلك الجرائم؟ والأكثر أهمية كيفية الرد وهل سيكون كافياً لردع تلك الجماعات عن تكرار هجماتها مرة أخرى؟، أما السبب الثاني: فهو أن العديد من الدول ومن بينها دول الخليج العربي أضحت تعتمد على التكنولوجيا بشكل رئيسي كركيزة أساسية لتنفيذ خطط التنمية بما يعنيه ذلك من أنه لا مفر من زيادة وتيرة استخدام تلك التكنولوجيا بشكل غير مسبوق لما يتطلبه ذلك من ضرورة التعامل مع تلك التقنيات وخاصة التشريعات، ويتمثل السبب الثالث في حالة التوتر الإقليمي المزمنة والتي أضحت فيها الجماعات دون الدول جزءا من المشهد البالغ التعقيد وكان الأمن البحري مجالاً لتوظيف تلك التقنيات من خلال استخدام تلك الجماعات طائرات من دون طيار «درونز» تحت الماء وكان ذلك تطوراً نوعياً.
ولا شك أن تشابك الموضوع بأبعاده الثلاثة المحلية والإقليمية والدولية يحتاج إلى خطط تشمل تلك الدوائر، فمحلياً أتصور أن كل دولة لابد وأن يكون لديها ميثاق بشأن استخدامات تلك التقنيات في المجالات كافة، وعلى المستوى الإقليمي من المهم أن تكون هناك أطر للتعاون على الأقل داخل المنظمات الإقليمية مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجامعة الدول العربية وهنا تجدر الإشارة إلى أعمال الاجتماع التمهيدي للدورة الـ28لممثلي رؤساء هيئات التدريب في القوات المسلحة العربية الذي عقد بمقر جامعة الدول العربية خلال الفترة من 7-9 يوليو 2024 برئاسة مملكة البحرين لمناقشة دور الذكاء الاصطناعي في تطوير القوات المسلحة للدول العربية وتأثير ذلك في عمليات تدريب تلك القوات حيث تمت مناقشة 9 دراسات من دول عربية مختلفة حول ذلك الموضوع وستكون خلاصتها موضوع المؤتمر الذي سوف يعقد بمقر الجامعة في نوفمبر 2024 للغرض ذاته، ودولياً: فلاشك أن الاسترشاد بما توصل إليه حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في هذا الشأن من مبادئ واستراتيجيات شاملة ستكون مرتكزات مهمة لأي تعاون دولي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية
بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك