العرب هم مادة الإسلام الأولى، صنعهم الله تعالى على عينه، واختارهم من بين خلقه لتكون منهم الأمة الوريثة للرسالات السماوية التي جاءت قبل الإسلام، قال تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم) الحجرات / 14.
فالعرب إذًا هم مادة الإسلام الأولى، ولغتهم هي اللغة التي سوف يكون التحدي مجالها وميدانها ، ولهذا لابد وأن يكون الرسول الذي جاء يتحدى بها أرباب البلاغة والبيان أميًّا لا يقرأ، ولا يكتب حتى لا تقول العرب إن مصدر معجزته نقلها عن غيره من الأنبياء الذين سبقوه، وهذا ما بيَّنه القرآن الكريم في قوله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون) (العنكبوت / 48) وأيضًا إصرار الرسول الأعظم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) لجبريل عليه السلام حين طلب منه القراءة بأنه لا يقرأ ثلاث مرات فيه تأكيد لأميَّته صلوات ربي وسلامه عليه.
إذًا، فالقرآن هو كتاب سماوي تكفل الله تعالى بحفظه، فقال تعالى: (إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر / 9) وجعله المعجزة الوحيدة من معجزات الأنبياء الباقية والخالدة على مرَّ الزمان حيث إن المعجزات قبل معجزة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) قد انتهت بموت الأنبياء الذين ظهرت على أيديهم تلك المعجزات، ولهذا قال تعالى متحديًا بلغاء وحكماء العرب الذين نشأ بين أظهرهم الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (الإسراء / 88)، وتحداهم بعشر سور مفتريات، ثم بسورة واحدة أيضًا مفتراة، فعجزوا عن ذلك كله، وسلمت الحجة للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم).
إذًا، فاختيار الله تعالى العرب أمة وريثة لمن جاء قبلهم من الأمم كان فيه حكمة بالغة، وبرهان ساطع على أن الغاية التي أرادها الله تعالى من هذا الاختيار قد تحققت، وسوف نحاول التدليل على ذلك بذكر بعض الآيات التي ذكرت فيها أمةً العرب، والتي صارت بعد ذلك أمة الإسلام.
في بعض وصف القرآن الكريم هذه الأمة، والمهمة التي أخرجها الله تعالى من أجلها، فقال سبحانه وتعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله …) (آل عمران / 110) ونعلم أنه من ألزم الصفات للأمة لتقوم بهذه المهمة، وهي مهمة البلاغ عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن تكون الأمة وسطية في كل شأن من شؤونها، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا…) (البقرة / 143).
إذًا، فالوسطية هي أعظم صفة تتصف بها أو توصف بها هذه الأمة التي آلت إليها مواريث الأنبياء جميعًا حيث يتسع صدرها للمخالفين لها ولا تضيق بهم ذرعا حيث التوازن، والاعتدال في كل أمورها، من هؤلاء الخصوم، وتنصفهم من نفسها قبل أن تنصف نفسها منهم ولا يكون اختلاف الدين سببًا في غمط المخالفين لحقهم، قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولَم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة / 8).
صفة أخرى يجب أن تتصف بها الأمة الإسلامية لتكون أهلاً للقيام بمهمة البلاغ عن الرسول إلى الله تعالى في الدنيا، وتكون شهيدة على الناس يوم القيامة وهي الوحدة النابعة من التوحيد، وهذا يعني أنها تستمد الأوامر والنواهي من الله تعالى، وألا تكون تابعة لهواها، قال تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنما يتبعون أهواءهم ومن أضَّل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) (القصص / 50).
ولقد جمع الله تعالى لأمة العرب العديد من الفضائل، بل حتى أن أبا الأنبياء إبراهيم (على رسولنا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم) اختار الإسلام اسمًا لهذه الأمة، قال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) (الحج / 78).
والعرب عندما تشرفوا بالإسلام دعا لهم نبي الله إبراهيم (عليه الصلاة والسلام)، قال تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) (البقرة / 129).
أما عن بشارة نبي الله عيسى (عليه الصلاة والسلام) فقد جاءت في قوله تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) (الصف / 6).
ولقد نالت الأمة الإسلامية حظها من التكريم من الأوسمة التي نالها رسول الإسلام، قال تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) (الأحزاب / 56) ولقد نالت الأمة الإسلامية حظها من هذا التكريم، فقال سبحانه: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيمًا) (الأحزاب / 43). ومن كرامة هذه الأمة على الله تعالى أن جعل لها أمانين، الأول: استغفار الرسول لها طيلة حياته، والثاني دوام استغفارها لنفسها قال سبحانه: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (الأنفال / 33). وقد جاء في سورة التوبة عند حديثها عن الزكاة قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصَلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) (التوبة/ 103) وإذا كنا نرجو الاستجابة لدعوات الصالحين من المسلمين لنا، فما بالكم حين يصلي علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واستجابة ربه سبحانه لدعائه لنا لا شك متحقق.
هذه هي الأمة الإسلامية، ومقامها عند الله تعالى إذا هي استجابت لله تعالى وللرسول (صلى الله عليه وسلم) في كل ما تأخذ وتدع من أمور دنياها وآخرتها، ويراها حيث يأمرها ويفتقدها حيث نهاها، وأن تصبر وتحتسب حين ينزل بها البلاء، فيكون ذلك مظهرًا من مظاهر إخلاص الإيمان، وترجمة لما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قال: «من شهد أن لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه دخل الجنة» إسناده صحيح على شرط الشيخين، من رواية معاذ ابن جبل (رضي الله عنه)، في السلسلة الصحيحة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك