في محاضرة امتدت حوالي أكثر من ساعة للعميل السوفيتي المنشق، (يوري بيزمينوف) في عام 1983، ركز فيها وأشار بكل وضوح إلى إنّ زمن الحروب العسكرية لإخضاع الدول قد ولى فلم يعد له مكان اليوم، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فالانتصار الآن يتم تحقيقه من خلال تمزيق الدول من الداخل، فإن تم ذلك فإنه أفضل بكثير للدولة الغازية المحتلة، إذ يمكنها أن تعيش بعد فترة من الزمن كجزء أصيل وكيان مهم من كيان المجتمع والدولة المنكوبة، كما حدث مع سكان أمريكا وأستراليا الأصليين، وكذلك جنوب أفريقيا، حيث يعيش اليوم سكان الدولة الأصليون مع الشعوب الغازية جنبًا إلى جنب بطريقة توافقية أو بطريقة أو بأخرى.
تقوم هذه النظرية على فكرة الجنرال الصيني (سن تزو) قبل قرابة 2500، الذي يُعد واحدًا من أعظم المخططين الاستراتيجيين في الحروب، فبناء على طلب الملك (هوو لوو) وضع كتابًا بعنوان (فن الحرب)، والذي ضمّنه خلاصة تجاربه وخبراته العسكرية والسياسية، ومن حينها، أصبح الكتاب مرجعًا لا يُستغنى عنه لا في المجال العسكري ولا السياسي ولا الإداري أيضًا، لكل من أراد خلق ميزات تنافسية له ضد خصومه، وكيفية التغلب عليهم في معترك الجيوش، وأيضًا، وهو الأهم، هزيمتهم داخليًا خلف جدرانهم الحصينة.
الفكرة تنحصر بصورة عامة على الغزو الداخلي الفكري والنفسي للدولة والمجتمعات، من خلال هدم أربعة أعمدة أساسية يقوم عليها المجتمع، وهي مراحل متتالية لا تأتي المرحلة الثانية إلا بعد استكمال المرحلة الأولى وهكذا، وهي على النحو التالي: مرحلة إسقاط الأخلاق وتدمير الدين، مرحلة إفساد التعليم، مرحلة زعزعة الاستقرار والأمن الداخلي، ومرحلة خلق الأزمات الداخلية. لنحاول أن نلقي بعضًا من الضوء على هذه المراحل.
المرحلة الأولى: إسقاط الأخلاق وتدمير الدين؛ في المعجم الوسيط فإن الأخلاق تعني حالة للنفس الراسخة التي تصدر عنها الأفعال سواء كانت أفعالا خيرة أو سيئة، وتصدر من غير حاجة إلى فكرٍ ورويّة. وبمعنى آخر فإن الأخلاق هي القِيَم، وهي منظومة من المبادئ والسلوكيات التي تنظم حياة الإنسان في المجتمع، بحيث ينتج عن الالتزام بها سعادة البشرية، وقد حثت عليها الشرائع السماوية السمحة من لَدُن آدم عليه السلام إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
وهذا يعني أن تقوم الدولة الغازية بوضع مخطط يتراوح ما بين 15 إلى 20 سنة، من أجل تدمير كل المنظومة الأخلاقية التي كانت راسخة في الجيل القديم، وإنشاء منظومة أخلاقية جديدة يتربى عليها الجيل الجديد مكونة من القيم البديلة، والأخلاقيات المبتذلة، التي يراد ترسيخها في المجتمع. وحتى يتم ذلك لا بد من تدمير الدين وذلك بالسخرية منه ومِن رجالاته، وتهويل المآخذ عليه، وتلميع من يهاجمونه، ووصفهم بالمفكّرين، واستبداله بالعقائد الباطنية المنحرفة، التي يتم تسويقها على أنها أكثر (إلهامًا) للناس، مهما كانت ساذجة أو بدائية أو متناقضة، وتمجيد أصحابها، وإبرازهم كرموز للرأي الحر والفكر المختلف، بالإضافة إلى استبدال المؤسسات الدينية المحترمة، بمنظمات وهمية أو حتى إرهابية حتى تسهم في صرف انتباه الناس عن الإيمان الحقيقي، وجذبهم لأنواع العقائد الدخيلة التي تفسد على الإنسان حياته ومجتمعه.
المرحلة الثانية: إفساد التعليم؛ في كتاب (بروتوكولات حكماء صهيون – المخططات الماسونية للسيطرة على العالم) للكاتب منصور عبد الحكيم يشير فيه إلى البرتوكول 16 تحت عنوان (تفريغ التعليم من محتواه وتدمير العملية التعليمية في الدول وخاصة التعليم الجامعي)، يقول البرتوكول: «رغبة في تدمير أي نوع من المشروعات الجمعية غير مشروعنا، سنبيد العمل الجماعي في مرحلته التمهيدية أي إننا سنغير الجامعات، ونغير إنشاءها حسب خططنا الخاصة. وسيكون رؤساء الجامعات وأساتذتها معدين إعدادًا خاصًا وسيلته برنامج عملي سري متقن سيهذبون ويشكلون بحسبة ولن يستطيعوا الانحراف عنه بغير عقاب، وسيرشحون بعناية بالغة ويكونون معتمدين كل الاعتماد على الحكومة وسنحذف من فهرسنا كل تعاليم القانون المدني مثله في ذلك مثل أي موضوع سياسي آخر».
ويقول مؤلف الكتاب معلقًا على ما ذكره البرتوكول السادس عشر: «إن معنى تفكيك العملية التعليمية في أي بلد ألا يتم تطوير أساليب التعليم حسب مقتضيات العصر الحديث وأن تجعل التعليم عبارة عن حشو العقول بمعلومات تلقن وتحفظ وقد لا تفهم، وكذلك عدم إتاحة الفرصة للجميع أن يصلوا إلى الجامعات، ورفع تكاليف التعليم أي إلغاء التعليم المجاني».
المرحلة الثالثة: زعزعة الاستقرار والأمن الداخلي؛ الأمن والاستقرار الداخلي للمجتمعات والأفراد جزء مهم من الاحتياجات الأساسية للإنسان كما جاء في كل الحقائق والنظريات التي تحدثت عن الاحتياجات البشرية، لذلك فإن الدول الاستعمارية فهمت أنه لو أرادت أن تتحكم في الشعوب والدول وتفكك مجتمعاتها المستقرة فإنه ينبغي أن تزعزع الأمن الداخلي للمجتمع.
تقول الكاتبة الكندية (نعومي كلاين) في كتابها (عقيدة الصدمة) إنه في الخمسينيات من القرن العشرين طرح العالم دونالد كمرون سؤالا، وهو: هل يمكن أن تغير أفكار الإنسان بصورة كاملة؟ بمعنى هل يمكن أن نصنع إنسانًا جديدًا مختلفا تمامًا عن الإنسان القديم بكل أفكاره وقيمه وعواطفه وقناعاته؟ ومن خلال العديد من التجارب والأطروحات توصل العالم إلى نظرية التي تقول إنه يمكن صنع إنسان جديد؛ ولكن نحتاج إلى إلغاء الإنسان القديم وتحويله إلى صفحة بيضاء ومن ثم صنع إنسان جديد بكل القيم والأفكار الجديدة.
وحتى تتحول هذه النظرية إلى حقيقة يمكن تنفيذها على الشعوب والدول وقد تم تحويل الفكرة وكل الدراسات إلى العالم الأمريكي اليهودي الاقتصادي (ميلتون فريدمان) الذي كان يعمل حينئذ كدكتور محاضر في جامعة شيكاغو، والذي خرج بالنظرية التالية: «للسيطرة على الشعوب فإنه يجب أن تعرضها لصدمة كبيرة جدًا بحيث تفقدها توازنها وبالتالي قيمها، ومبادئها، لتجعلها ملكا لك وحدك ومستسلمة لك تمام الاستسلام، تنفذ أوامرك ورغباتك، ومرعوبة من عدو وهمي لا يستطيع إلا أنت السيطرة عليه».
وحتى تتم هذه الصدمات وتنشأ بعدها تلك الزعزعة فإنه لا بد من إذكاء النعرات الطائفية والعصبيات في المجتمع المتماسك لتمزيقه، وتقديم قدوات زائفة، لتسطيح الفكر المجتمعي، ونقل المجتمع من التركيز على المهمات، إلى البحث عن سفاسف الأمور، والجري وراء الموضة والملذات، وفقدان الحس بأهمية احترام الوطن وأُسسه ورموزه، في هذه الخطوة، يتم البحث عن الخونة المندسين، عن أصحاب الأجندات المريبة والمطامع الشخصية، عن أتباع العقائد المناقضة والمنافرة لعقيدة البلد، وغير المتعايشة معها، عن عملاء دول معادية، يمكن شراؤهم وتجنيدهم، ثم دعم الجميع بطريقة غير ملحوظة.
وهنا وفي هذه المرحلة تتزعزع المواطنة والولاء للوطن ليصبح الولاء للطائفة والفكر، وربما أجندات من خارج الوطن هي التي تتحكم في فكر المجتمع.
وللأسف فإن هذه المرحلة تجرنا إلى المرحلة الأخيرة.
المرحلة الرابعة: خلق الأزمات الداخلية؛ تعرف الأزمة أنها نمط معين من المشكلات أو المواقف التي يتعرض لها الإنسان أو المجتمع، هذه المواقف تتطلب ردود أفعال من هذا الإنسان لاستعادة مكانته الثابتة وبالتالي تتم استعادة التوازن، وللأسف فإن هذه المواقف في كثير من الأحيان تتحدى الفرد مما يضطره إلى تغيير وجهة نظره وإعادة التكيف مع نفسه أو مع العالم الخارجي أو مع كليهما. فالأزمات ببساطة حوادث أو مشاكل تؤدي إلى خسائر في العائدات أو الموارد أو حتى الأنفس لذلك فإنها تحتاج إلى إدارتها بصورة ذكية ومنهجية احترافية موضوعية حتى يمكن التخلص منها.
ووجود الأزمات نتيجة حتمية لتنفيذ المراحل السابقة، فلا يمكن حدوثها إلا من خلال تدمير الأخلاق وإفساد التعليم وزعزعة الأمن والاستقرار، حينئذ يتم تقديم بعض الشخصيات المُلمَّعَة تتصدر المشهد السياسي والمجتمعي، وتدين بالولاء للعدو الخارجي، تحاول أن تصنع أزمات في المجتمع مما يؤدي إلى فوضى سياسية وانفلات أمني، ودخول البلد في نفق مظلم، أو حرب أهلية، بعد ذلك ينتهي كل شيء.
وهذه الفئة من البشر الذين يتصدرون المشهد تذكرني بحديث نبوي شريف قال فيه رسولنا الكريم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة». وعندما فُسر معنى الرويبضة قيل إنه السفيه الذي لا عقل له، ولا كياسة عنده يتكلم في أمر العامة ويمثلهم، وهذا من فساد الأمور، وانقلاب الأحوال، ورجوع الأمر القهقري في آخر الزمان.
طبعًا، عندما نتحدث عن مراحل أربع هذا لا يعني أبدًا أنها كل المراحل، وإنما هناك العديد من المراحل بل والأساليب التي تستخدمها الدول الغازية المحتلة لتدمير معنويات الدول، لتصبح ضعيفة وتقبل الهزيمة وتستكين للراحة، وفي النهاية تقبل الخنوع والذل، وتجد أنها مجبرة في النهاية على التعايش مع الغازي والمحتل كأحد أطياف المجتمع، أو حتى أنه الجزء الأساسي، والذي كان يُعد هو الأساس أصبح ثانويا يعيش في معسكرات ومحميات.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك