تفصل 75 يوما بين تنصيب رئيس أمريكي جديد في العشرين من يناير 2025 وبين يوم الانتخابات العامة المقرر إجراؤها يوم 5 نوفمبر المقبل. بعد انسحاب الرئيس جو بايدن من السباق الانتخابي قبل شهرين بسبب تراجع حالته الصحية بصفة عامة، وقدراته الذهنية بصفة خاصة، دخل بايدن وإدارته مرحلة «البطة العرجاء» والتي تقترب من الشلل العام كونها مرحلة لا يكترث فيها أحد برئيس مغادر وسيكون رئيسا سابقا قريبا. فجأة انتقلت الأضواء والتركيز على مواقف نائبته وخليفته على بطاقة الحزب الديمقراطي الرئاسية كامالا هاريس. بافتراض حسم الانتخابات يوم 5 نوفمبر، يبقى أمام بايدن 75 يوما في البيت الأبيض كرئيس وكقائد أعلى للقوات المسلحة الأمريكية.
يخشى الكثير من المعلقين مما قد تشهده الولايات المتحدة من أحداث مثيرة في هذه الفترة الحرجة من التاريخ الأمريكي، خاصة ما يرتبط منه بتدخل غير مسبوق في إقليم الشرق الأوسط.
يدرك الكثير من العسكريين الأمريكيين أن هناك تصورات استراتيجية خطيرة لدى النخبة الحاكمة في إسرائيل. بعد نجاح إسرائيل في القضاء على العديد من أخطر أعدائها في عمليات استخباراتية وعسكرية خلال الأيام والأسابيع الماضية، ومن أهمها اغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله، ومن قبله اغتيال زعيم حركة حماس إسماعيل هنية، اتسعت شهية رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو ورغبته في تحقيق نجاحات أكبر.
مع أن واشنطن عبرت عن أن لديها مخاوف كبيرة من التورط في نزاع إقليمي ينتج عن أي خطوات متهورة تدفع بانهيار الدولة وبث الفوضى في لبنان، يتجاهل نتنياهو المخاوف الأمريكية طالما لم تقترن بأي رغبة في التشدد مع الحليف الإسرائيلي، ولواشنطن خبرة نتجت عن حرب أهلية طاحنة بين عامي 1975 و1990، وتسببت في إراقة دماء أمريكية كبيرة، كما أن واشنطن تؤمن أن مقتل الآلاف من المدنيين اللبنانيين ليس مجرد مأساة في حد ذاته، بل إنه يخلق ضغطا شديدا على الولايات المتحدة من حلفائها ويشوه صورة أمريكا بالتبعية حول العالم.
كلما طال أمد الحرب، زاد التهديد المتمثل في أن الصراعات التي تتصاعد في جميع أنحاء المنطقة يمكن أن تنضم جميعها إلى حرب واحدة محفوفة بالمخاطر متعددة الجبهات، وأن صراعا مباشرا يمكن أن يندلع بين الولايات المتحدة وإيران. ويدرك العقلاء في واشنطن أن نتائج أي حرب إقليمية سيكون من بين عواقبها نتائج اقتصادية كارثية، يمكن أن تنحرف وتضر بهدف الولايات المتحدة الأهم في سياستها الخارجية، والمتمثل في التعبئة لمواجهة تهديدات الصين، القوة الكبرى الصاعدة.
ما قامت به إسرائيل تجاه مبادرة أمريكية فرنسية لوقف القتال لمدة 21 يوما في جنوب لبنان كان دليلا كاشفا لإمكانية تجاهل النداءات والمبادرات الأمريكية، وذلك بعدما أدركت إسرائيل محدودية قدرة إدارة بايدن على اتخاذ موقف صارم تجاهها حال تجاهلها المبادرة. بالفعل اتجهت إسرائيل للتصعيد، ونجحت في اغتيال نصر الله، وهاجمت بشدة أهدافا مدنية نتج عنها مقتل أكثر من ألف لبناني، وهو ما بخر أي أمل في التوصل إلى اتفاق، ولو مؤقت، لوقف إطلاق النار.
من جانبها، وعقب كل هجمة إسرائيلية، تؤيد واشنطن الخطوة الإسرائيلية، ثم تطالب بضرورة ضبط النفس وتدعو إلى وقف التصعيد.
على مدار العام الماضي، اختارت واشنطن التحذير من خطر نشوب حرب إقليمية، واختار البيت الأبيض تجاهل أن هناك حربا إقليمية دائرة بالفعل مع تدخل جماعة الحوثيين و«حزب الله» والمليشيات العراقية الموالية لإيران، إضافة إلى إيران في الصراع.
تملك واشنطن عدسة مختلفة عن عدسة تل أبيب، ودفع ذلك بواشنطن إلى التخوف من أن انتصارات إسرائيل على المدى القصير ليست مستدامة وربما تضع ببساطة الأساس لعقود من انعدام الأمن والحرب، ويخشى البيت الأبيض من التورط في صراع مرير آخر في الشرق الأوسط، بالنظر إلى العقدين اللذين استغرقهما إخراج القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان. ناهيك عن الآثار العالمية والسياسية لما شهده العام الأول بعد طوفان الأقصى.
على سبيل المثال، عرف البحر الأحمر هجمات لا تتوقف على الشحن التجاري في البحر الأحمر، وتتعرض القوات البحرية الأمريكية والقوات البحرية المتحالفة معها – في كثير من الأحيان– لإطلاق النار واعتراض الصواريخ من الحوثيين المدعومين من إيران. كما أن الآثار الاقتصادية المتتالية الناجمة عن تباطؤ سلاسل التوريد، حيث ترسل خطوط الشحن البضائع بواسطة طريق أطول حول إفريقيا، كبيرة أيضا.
أتصور أن نتنياهو يدرك جيدا توازنات السياسة الأمريكية خاصة في موسم انتخابات حاسم بين مرشحين يتنافسان على تقديم الدعم لإسرائيل. ولم يتردد رئيس الوزراء الإسرائيلي في تجاهل وإحراج البيت الأبيض على الرغم من ضخامة الدعم الأمريكي، بل يرى بعض المعلقين أن نتنياهو يظهر الازدراء لرئيس الولايات المتحدة.
رغم إدراك واشنطن لمصلحة نتنياهو الشخصية في شن حروب دائمة لتعويض فشله في وقف هجمات 7 أكتوبر والاستمرار في تأجيل حساباته القانونية لأنه يواجه تهما جنائية خطيرة، يعمل الاستقطاب الحاد والنفوذ الضخم للوبي المؤيد لإسرائيل، على منع أي تشدد تجاه إسرائيل.
وضعت إسرائيل بايدن وهاريس في موقف سياسي محفوف بالمخاطر قبل 5 أسابيع من الانتخابات. أدى فشل بايدن الطوعي في عدم كبح جماح إسرائيل في غزة ولبنان، وربما إيران، وما يترتب على ذلك من خسائر بشرية ضخمة، ونتائج لا تقتصر على منطقة الشرق الأوسط، إلى عدم استبعاد مشاهدة سيناريوهات متهورة وفوضوية في أضعف 75 يوما من حكم رئيس أمريكي لم يعد يعمل له أحد أي حساب داخليا أو خارجيا، ليس من جانب الأعداء والمتنافسين بحسب، بل ممن يعتقدون أنهم أقرب حلفاء لهم كذلك.
{ كاتب صحفي متخصص
في الشؤون الأمريكية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك