عكف عالم الاقتصاد الكبير المرحوم الدكتور إسماعيل صبري عبدالله، مدير معهد التخطيط القومي الأسبق في مصر، طوال أعوام مديدة، على كتابة (عمود) في إحدى الصحف الفكرية الأسبوعية، بعنوان (ألفاظ ومعانٍ). وقد كرس جهده في هذا الباب على كشف أسرار بعض الألفاظ المستغلقة، لتقريبها لأذهان القراء ولو كانوا من خاصة المثقفين المتنورين، وقد خطر لي اليوم أن أحاول شيئًا من ذلك، بالتطبيق على نقطة (مستغلقة) حقًا وهي «التنمية»، فما «التنمية»؟ سؤال غير سهل المرمى، وعميق الأغوار فمن قائل إن التنمية مصنفة لفظيًا حسب مجالات استعمالها البلاغي المختلفة! فإذا هي تنمية اقتصادية أو اجتماعية وهلم جرا.
وسوف نتبع هذه الطريقة (الشكلانية) لنقول إن أبرز ما ظهر في الحقل اللفظي للتنمية، وأقدمها في نفس الوقت، هي التنمية الاقتصادية. كان ذلك في أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم، وأوائل الخمسينيات. ولعل التنمية هنا، كمقابل للكلمةDevelopment ، ظهرت في المجال التداولي اللغوي بعد لفظة التأخر Backwardness، حيث اشتقت لفظة البلاد المتخلفة underdeveloped كبديل للبلاد المتأخرة، ثم لحقت بها بعد ردح من الزمن لفظة «البلاد النامية» Developing في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات.
من «المتأخرة» إلى «المتخلفة» إلى «النامية» جرى اللسان العربي ليعكس الأوضاع المختلفة لموقع البلدان (الآخذة في النمو) من النظام العالمي. وسواء نظرنا إليها من زاوية «التأخر» فـ«التخلف» فـ«النمو»، حتى مطالع السبعينيات ثم ما تبعها، فإن المحتوى الاقتصادي للفظة التنمية كان هو الأغلب في جميع الأحوال، فإذ بـ«التنمية الاقتصادية» هي الأغنى في المحتوى النظري من أي استخدام آخر لتلك اللفظة.
وبرغم الثراء الكامن في «التنمية لفظًا»، ونعنى «التنمية الاقتصادية»، فإن عيبها الجوهري كامن بدوره في قصر استخدام اللفظة على مجال التداول الاقتصادي حصرًا، ما جعل التنمية – إلى حد كبير– وكأنها مرادفة للتطور الاقتصادي دون غيره، من أوجه التطور أو «التنمية».
فهل إن ذلك صحيح حقًا، وهل إن التنمية هي «التنمية الاقتصادية» وكفى؟ ذلك ما نربأ بجمهرة الاقتصاديين أن يحذوا حذوه؛ وإنما «التنمية الاقتصادية» مجرد بُعد واحد ليس غير، من أبعاد عملية التنمية، فتصير التنمية بهذا المدلول عملية، «ذات بُعد واحد» one-dimensioned. فأين منها إذن الأبعاد الأخرى للعملية ذات الأبعاد المتعددة والمتداخلة بطبيعتها، Multi-inter disciplinary، حيث تنوع الجوانب وترابطها الجدلي وحركيتها عبر الزمن كمًّا وكيفًا.
عود على بدء، فإن الثراء النسبي الأكبر لمفهوم التنمية الاقتصادية قد أغرى الباحثين والخبراء والمنظّرين بالنظر إلى (التنمية) و(التنمية الاقتصادية) كمرادفين إلى حد بعيد.
ومن القصور البادي في ذلك «الترادف» وجد المبرّر لاستخدامات تداولية أخرى، منذ البداية تقريبًا، للفظة التنمية، فإذا إنها تنتقل لتكون محورًا «لأعمال علمية متنوعة»، في المجالات المعرفية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، وخاصة في علم الاجتماع.
وهنا ظهرت على الفور «التنمية الاجتماعية» كلفظة دالة على التنمية المنفردة في المجال السوسيولوجي بمعناه الضيق إلى حد بعيد. وعلى الجانب الآخر برزت في الكتابات السوسيولوجية معانٍ متعددة ذات غنى نظري – عملي كبير، ومن ذلك ما ظهر في الكتابة العربية مثلًا من خلال العمل الإبداعي، الاجتماعي، «في بناء البشر» للدكتور حامد عمار) وبالتوازي مع التنمية الاجتماعية، ظهرت لفظة ذات معنى يكرّس الطابع التجزيئي للعلوم الاجتماعية بمدلولها الواسع، حيث ظهرت «التنمية السياسية» في الأدبيات الأكاديمية الأمريكية بالذات خلال عقد الستينيات وما بعده خاصة السبعينيات.
وحينئذ بدأ ظهور «التنمية السياسية» كحقل معرفي يتبلور، ويركز على دراسة الديمقراطية، من خلال «التغير السياسي» ومفهوم «الحداثة» عبر مقتربات عدة، مثل مقترب «المدخلات والمخرجات» وبالتوازي مع «التغير» ظهر مفهوم «الاستقرار» في الستينيات، على يد «صمويل هنتنجتون»، والذي تنوعت وتجددت إسهاماته الفكرية فيما بعد حتى كتابه الأشهر «صدام الحضارات».
ومضت «الخطة» و«الخطى» «التجزيئية» للعلوم الاجتماعية، وإن شئت فقل: العلم الاجتماعي، حين روّجت بعض منظمات الأمم المتحدة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع التسعينيات، لمصطلحات ذات بنى لفظية متقاربة، مثل «التنمية العلمية» و«التنمية التكنولوجية»، والتي انتقلت إلى المجال العربي، ولو من خلال تكوين «الجمعية التكنولوجية» في الثمانينيات.
وتكرست التجزيئية مرة أخرى، من خلال إنشاء وأعمال «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» في النصف الأول من الستينيات UNCTAD.
ومن قبل ذلك، نلحظ ظهور «منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية» UNIDO جنبًا إلى جنب مع المنظمات الدولية الأخرى المنشأة كوكالات متخصصة للأمم المتحدة UN .
وكان للمنظمات الإقليمية نصيب وسهم وافر في تكريس التجزيئية، مثل «جامعة الدول العربية»، والتي أنشأت المنظمة العربية للتنمية الزراعية وغيرها.
هذا، وعدا عن كل ما سبق، فقد ظهرت فروع علمية كاملة استعارت مفهوم التنمية، لتقيم منها بناءً أو صرحًا مستقلًا، مثل «التنمية البشرية» والتي بلغت أوجها التنظيري من خلال مؤلف عالم الاقتصاد الحائز جائزة نوبل «أمارتيا سن»: «التنمية حرية».
بلغ الطموح النظري منتهاه مع ما قام عليه الصرح الفكري للتنمية ليس فقط من خلال نظرية التنمية التقليدية، سواء في فرعها الكلاسيكي حول خصائص البلاد النامية وبعض مشكلاتها البارزة (كالديموجرافيا المختلّة) أو من خلال فرعها المتطور على أيدي مدارس مبدعة مثل مدرسة «نقد التبعية»، حيث برزت الأعمال المتصلة بالتحولات الهيكلية Structural Transforming، والعلاقة الاعتمادية لبلدان «العالم الثالث» على العالم الخارجي ماليًا وتجاريا وتكنولوجيًا (التبعية)، جنبا إلى جنب مع ضرورة التوازن الرشيد بين المقادير الاستثمارية المخصّصة للاستخدامات المختلفة حيث تتراوح بين اتجاه «التنمية المتوازنة» و«التنمية غير المتوازنة».
وأخيرًا قامت التنمية البشرية «المستحدثة» على أقنوم نظري مختلف، قوامه رفع مستوى الدخول وتحسين مستويات المعيشة والرفاهية للأفراد، وخاصة في مجالات التعليم والصحة والرعاية والحماية الاجتماعية.
ولما ظهر أن «التنمية البشرية» قاصرة عن معانقة أبعاد التحول الهيكلي والاستقلالية النسبية في المجال الخارجي، وقاصرة عن معانقة المفاهيم المرتبطة ببناء الإنسان، قام البعض بابتداع مفهوم ولفظة «التنمية الإنسانية» للإيحاء بالمحتوى المختلف عن مجرد تنمية حياة (البشر) كأفراد أو جماعات، بناءً على تطور المعرفة وحقوق المرأة.. إلخ.
ولكن الطابع التجزيئي للعلم الاجتماعي لم يتم التخلي عنه وإقامة البديل المتكامل، حتى مع «التنمية الإنسانية».
لذلك كله، ومن ذلك كله، يحق لنا أن نقول إن التنمية في حقيقتها ليست «تنميات» مجزّأة أو مُجتزأة، ولكن التنمية عملية Process متكاملة متضافرة، اقتصاديًا واجتماعيًا، وسياسيًا، وثقافيًا، مبدؤها ومنتهاها الإنسان – الإنسان.
بهذا المعنى لا تكون ثمة تنمية اقتصادية، وأخرى اجتماعية، أو ثقافية، أو سياسية. إلخ. لا تكون ثمة (تنميات) متعددة، لا بل تكون هناك تنمية واحدة لا تتجزأ. تنمية تبدأ وتنتهي بالإنسان الكامل والمتكامل. تلك هي أنسنة التنمية، وكما كنا نقول من زمان إن (الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب)، فكذلك يحق أن نقول إن التنمية هي التنمية للإنسان بالإنسان ومن أجل الإنسان. فالإنسان هو الوسيلة وهو الواسطة والغاية معًا. وهذا ما نرجوه حقًا.
{ أستاذ في اقتصاديات
التنمية والعلاقات الدولية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك