العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

هل تكون الحقيقة ضحية حروب المعلومات؟

بقلم: عبدالرحمن الحبيب {

الخميس ٠٣ أكتوبر ٢٠٢٤ - 02:00

يقال‭ ‬إن‭ ‬المؤرخ‭ ‬الإنجليزي‭ ‬أرنولد‭ ‬توينبي‭ ‬صاحب‭ ‬موسوعة‭ ‬دراسة‭ ‬التاريخ،‭ ‬سئل‭ ‬مرة‭: ‬ما‭ ‬رأيك‭ ‬في‭ ‬مصداقية‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية؟‭ ‬فرد‭: ‬حدثت‭ ‬مشاجرة‭ ‬أمام‭ ‬بيتي،‭ ‬وبعد‭ ‬6‭ ‬ساعات‭ ‬سمعتها‭ ‬من‭ ‬الجيران‭ ‬بست‭ ‬روايات‭ ‬مختلفة‭! ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬بأحداث‭ ‬جرت‭ ‬منذ‭ ‬مئات‭ ‬السنين؟‭!‬

المعلومات‭ ‬تنهمر‭ ‬علينا‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬وبها‭ ‬خلط‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والخيال،‭ ‬وبين‭ ‬العاطفي‭ ‬المنحاز‭ ‬والموضوعي‭ ‬المحايد،‭ ‬بين‭ ‬الصادق‭ ‬والمضلل،‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬المقولة‭ ‬أعلاه‭ ‬المزعومة‭ ‬لتوينبي‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬ملفقة،‭ ‬فقد‭ ‬بحثت‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬المصادر‭ ‬الإنجليزية‭ ‬ولم‭ ‬أجدها،‭ ‬فيما‭ ‬نحن‭ ‬نندفع‭ ‬بسرعة‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬وشبكة‭ ‬معلومات‭ ‬هائلة‭ ‬تتجدد‭ ‬باستمرار‭ ‬وتهدد‭ ‬منهجية‭ ‬معارفنا‭ ‬لتنتج‭ ‬خليطا‭ ‬بين‭ ‬معلومات‭ ‬مفيدة‭ ‬وأخرى‭ ‬مضللة‭.‬

المزيد‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬ليس‭ ‬دائمًا‭ ‬أفضل‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬المرجح‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬الموضوعية‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬المعلومات‭ ‬ولكن‭ ‬حروب‭ ‬المعلومات‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬أن‭ ‬تزداد‭ ‬سوءًا‭.. ‬هذه‭ ‬من‭ ‬أطروحات‭ ‬كتاب‭ ‬جديد‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬نكسس‭: ‬تاريخ‭ ‬موجز‭ ‬لشبكات‭ ‬المعلومات‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الحجري‭ ‬إلى‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‮»‬‭ ‬لمؤلفه‭ ‬المؤرخ‭ ‬يوفال‭ ‬هراري‭.. ‬‮«‬Nexus‭   ‬كلمة‭ ‬لاتينية‭ ‬تعني‭ ‬رابط‭ ‬بين‭ ‬الأشياء‭ ‬أو‭ ‬الأحداث‭ ‬خاصة‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬سلسلة‭ ‬سببية‭.‬

يتناول‭ ‬الكتاب‭ ‬سلسلة‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري‭ ‬الطويلة‭ ‬للنظر‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬تشكيل‭ ‬تدفق‭ ‬المعلومات‭ ‬لنا‭ ‬ولعالمنا؛‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أخذنا‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الحجري،‭ ‬عبر‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة،‭ ‬وبدايات‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬والستالينية،‭ ‬والنازية،‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬وعودة‭ ‬الشعبوية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬اليوم،‭ ‬محاولاً‭ ‬استكشاف‭ ‬العلاقة‭ ‬المعقدة‭ ‬بين‭ ‬المعلومات‭ ‬والحقيقة،‭ ‬والبيروقراطية‭ ‬والأساطير،‭ ‬والحكمة‭ ‬والقوة؛‭ ‬وكيف‭ ‬استخدمت‭ ‬المجتمعات‭ ‬والأنظمة‭ ‬السياسية‭ ‬المختلفة‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬المعلومات‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهدافها‭.‬

يطرح‭ ‬المؤلف‭ ‬أن‭ ‬المعلومات‭ ‬ليست‭ ‬المادة‭ ‬الخام‭ ‬للحقيقة،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬سلاح‭ ‬بل‭ ‬تستخدم‭ ‬القصص‭ ‬لربط‭ ‬مجموعات‭ ‬من‭ ‬الناس‭.. ‬ويقترح‭ ‬أن‭ ‬الدروس‭ ‬المستفادة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توفر‭ ‬التوجيه‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬التحديات‭ ‬الكبرى‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالمعلومات‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر،‭ ‬وأهمها‭ ‬التأثير‭ ‬السياسي‭ ‬للذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬والمخاطر‭ ‬الجسيمة‭ ‬التي‭ ‬يفرضها‭ ‬التضليل‭.. ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬تعرض‭ ‬لبعض‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬مبالغته‭ ‬بتلك‭ ‬المخاطر‭ ‬ووضعه‭ ‬لتصورات‭ ‬مستقبلية‭ ‬كابوسية‭.‬

نقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬المؤلف‭ ‬هي‭ ‬تعريف‭ ‬جديد‭ ‬للمعلومات‭ ‬نفسها،‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬معظم‭ ‬المعلومات‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬رابط‭ ‬أساسي‭ ‬بالحقيقة،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬السمة‭ ‬المميزة‭ ‬للمعلومات‭ ‬ليست‭ ‬البيان‭ ‬والتوضيح‭ ‬بل‭ ‬الاتصال؛‭ ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬وسيلة‭ ‬لالتقاط‭ ‬الواقع‭ ‬بل‭ ‬وسيلة‭ ‬لربط‭ ‬وتنظيم‭ ‬الأفكار،‭ ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬ربط‭ ‬الناس،‭ ‬فهي‭ ‬‮«‬رابط‭ ‬اجتماعي‮»‬؛‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تقنية‭ ‬المعلومات‭ ‬القديمة،‭ ‬مثل‭ ‬القصص‭ ‬أو‭ ‬الألواح‭ ‬الطينية‭ ‬أو‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية،‭ ‬ثم‭ ‬الصحف‭ ‬والإذاعة‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لاحق،‭ ‬طرقاً‭ ‬لتنظيم‭ ‬النظام‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬بحسب‭ ‬الكتاب‭.‬

إن‭ ‬نقض‭ ‬الأسطورة،‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬جذابة‭ ‬ولكنها‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬دقيقة،‭ ‬هو‭ ‬البيان‭ ‬الموضوعي‭ ‬الذي‭ ‬يحاول‭ ‬بشكل‭ ‬ممل‭ ‬التقاط‭ ‬الواقع،‭ ‬ويؤدي‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬البيروقراطية،‭ ‬بينما‭ ‬تحتاج‭ ‬المجتمعات‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬والبيروقراطية‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬النظام‭.. ‬والمؤلف‭ ‬يعتبر‭ ‬إنشاء‭ ‬النصوص‭ ‬المقدسة‭ ‬وتفسيرها‭ ‬وظهور‭ ‬المنهج‭ ‬العلمي‭ ‬نهجين‭ ‬متناقضين‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬أسئلة‭ ‬الثقة‭ ‬والخطأ،‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬مقابل‭ ‬إيجاد‭ ‬الحقيقة،‭ ‬حسب‭ ‬عرض‭ ‬مجلة‭ ‬الإيكونيميست‭.‬

المؤلف‭ ‬يخشى‭ ‬أن‭ ‬ينطبق‭ ‬نفس‭ ‬الشيء‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭: ‬فالقرارات‭ ‬التي‭ ‬اتخذت‭ ‬بشأنه‭ ‬الآن‭ ‬سوف‭ ‬تشكل‭ ‬مستقبل‭ ‬البشرية؛‭ ‬ويفترض‭ ‬المؤلف‭ ‬أن‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يمثل‭ ‬حقا‭ ‬‮«‬الذكاء‭ ‬الغريب‮»‬‭ ‬ويخشى‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬نوعاً‭ ‬جديداً‭ ‬من‭ ‬القداسة‭ ‬‮«‬أنواعا‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الآلهة‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬تتفاقم‭ ‬المخاطر‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالحاسوب‭ ‬مثل‭ ‬التحيز‭ ‬الخوارزمي‭ ‬والتطرف‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬والهجمات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬والمراقبة‭ ‬الشاملة‭ ‬بسبب‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬ويتوقع‭ ‬أن‭ ‬يخلق‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬أساطير‭ ‬جديدة‭ ‬خطيرة‭ ‬وطوائف‭ ‬وحركات‭ ‬سياسية‭ ‬ومنتجات‭ ‬مالية‭ ‬جديدة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬انهيار‭ ‬الاقتصاد‭.‬

ولكن‭ ‬بعض‭ ‬السيناريوهات‭ ‬الكابوسية‭ ‬التي‭ ‬يتخيلها‭ ‬المؤلف‭ ‬تبدو‭ ‬غير‭ ‬معقولة‭ ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬الإيكونيميست؛‭ ‬فهو‭ ‬يتخيل‭ ‬حاكماً‭ ‬مستبداً‭ ‬يصبح‭ ‬مديناً‭ ‬لنظامه‭ ‬للمراقبة‭ ‬بالذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬وآخر‭ ‬يسلم‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬ترسانته‭ ‬النووية‭ ‬إلى‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬وزير‭ ‬دفاعه‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬ثقته‭ ‬فيه‭.. ‬وتبدو‭ ‬بعض‭ ‬مخاوفه‭ ‬خيالية‭: ‬فهو‭ ‬ينتقد‭ ‬موقع‭ ‬TripAdvisor،‭ ‬وهو‭ ‬موقع‭ ‬إلكتروني‭ ‬يصنف‭ ‬فيه‭ ‬السياح‭ ‬المطاعم‭ ‬والفنادق،‭ ‬باعتباره‭ ‬يمثل‭ ‬رعب‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬مراقبة‭ ‬من‭ ‬نظير‭ ‬إلى‭ ‬نظير‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬أجهزة‭ ‬المراقبة‭ ‬وهاتفك‭ ‬الذكي‭ ‬وكمبيوترك‭ ‬الشخصي‭.‬

والمؤلف‭ ‬لديه‭ ‬عادة‭ ‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬أشكال‭ ‬الحوسبة‭ ‬والذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬وتعريفه‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬شبكة‭ ‬المعلومات‮»‬‭ ‬فضفاض‭ ‬للغاية‭ ‬بحيث‭ ‬يشمل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬نماذج‭ ‬اللغة‭ ‬الكبيرة‭ ‬مثل‭ ‬ChatGPT‭ ‬إلى‭ ‬مجموعات‭ ‬صيد‭ ‬الساحرات‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬الحديثة‭ ‬المبكر؛‭ ‬ولكن‭ ‬سردية‭ ‬المؤلف‭ ‬جذابة،‭ ‬وتأطيره‭ ‬مبدع‭ ‬بشكل‭ ‬لافت‭ ‬للنظر،‭ ‬بحسب‭ ‬الإيكونيميست‭.‬

المؤلف‭ ‬كمؤرخ‭ ‬يعترف‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬قطاع‭ ‬تقنية‭ ‬الحوسبة‭ ‬والذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬عندما‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالكتابة‭ ‬عنها،‭ ‬مما‭ ‬يمنحه‭ ‬منظوراً‭ ‬خارج‭ ‬الصندوق‭.. ‬وقد‭ ‬يجد‭ ‬مختصو‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬وعشاقها‭ ‬أنفسهم‭ ‬يقرؤون‭ ‬عن‭ ‬جوانب‭ ‬غير‭ ‬متوقعة‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬سيكتسب‭ ‬مختصو‭ ‬التاريخ‭ ‬وعشاقه‭ ‬إدراكاً‭ ‬أفضل‭ ‬لمناقشة‭ ‬مجالات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭.‬

{‭ ‬كاتب‭ ‬سعودي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا