إن الفشل الدبلوماسي المتكرر لحكومة الولايات المتحدة في وقف الاعتداءات الإسرائيلية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وفشلها الأخلاقي في محاسبة بنيامين نتنياهو على انتهاكاته لحقوق الإنسان والقانون الدولي؛ لم يؤد فقط إلى تلقي موجة من الانتقادات الشديدة من وسائل الإعلام الغربية والأكاديميين والحقوقيين، بل باتت أمريكا تخسر العالم العربي. وقد أكد ذلك مايكل روبنز وأماني جمال ومارك تيسلر من شبكة الباروميتر العربي، الذين أظهرت استطلاعاتهم في عامي 2023 و2024 تراجعا بالغا لمكانة الولايات المتحدة.
ونتيجة لذلك، تنبأ المعلقون الغربيون بأن تحل جمهورية الصين الشعبية محل واشنطن وأن تلعب دورها الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والأمني. وقد أشار جون ألترمان نائب الرئيس الأول لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى أن الأوضاع الحالية قد قدمت دليلا إرشاديا للصين في كيفية التعامل مع دول المنطقة - بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي – وذلك عن طريق تنمية العلاقات الاقتصادية من دون التورط في الاضطرابات الاجتماعية والسياسية.
ونظرًا إلى كيفية تجاوز التجارة بين شرق آسيا والمنطقة لتلك الموجهة غربًا. فمن منظور أمريكي، فإنه بعد أكثر من عقد من تحويل صناع السياسات تفكيرهم الاستراتيجي بعيدًا عن الشرق الأوسط وتوجيهه نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ، قد توصل الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء في عام 2024 إلى استنتاج مفاده أن المنافسة الاستراتيجية مع الصين عالمية النطاق وأن المنطقة تتبوأ دورًا رئيسيا فيها.
بينما من منظور آخر، أوضح مايكل سينغ من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط، أنه لم تعد بكين تنظر إلى الشرق الأوسط من خلال منظور مصالح ضيق مثل مبادرة الحزام والطريق بغية النفوذ الاقتصادي والسياسي فحسب، ولكن بدلًا من ذلك فهي تنظر من خلال عدسة المنافسة بين الولايات المتحدة وبينها؛ لذا فقد اتخذت خطوات من شأنها تقويض واشنطن وتعزيز مكانتها العالمية. ووثق على ذلك جوناثان فولتون ومايكل شومان من المجلس الأطلسي إذ أكدا أن استراتيجيتها تركز على المنافسة غير المباشرة؛ كون بكين لا تسعى إلى استبدال أو التفوق على نظيرتها، بل تسعى بدلًا من ذلك إلى فك ارتباط المنطقة والعالم بأمريكا وجعلهم أكثر تقبلًا لها.
أما فيما يتصل بخططها الاستراتيجية لتحقيقها ذلك، فقد سلط ألترمان الضوء على عقود من النمو الاقتصادي، فضلًا عن إعلانها عدم تدخلها في الشؤون الداخلية، والتركيز على الشراكات الاقتصادية ذات المنفعة المتبادلة، وتلك الخطط كانت نقيضة للقيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية للولايات المتحدة. لذا رأى ألترمان أن الحكومة الأمريكية بحاجة إلى جهد ثلاثي الأبعاد من أجل إحياء العلاقات الدبلوماسية الإقليمية، وتتمثل تلك الجهود في توضيح أولوياتها في الشرق الأوسط، واكتساب فهم أفضل لمخاوف ودوافع الحكومات الإقليمية، وتحسين قدرتها على فرض العواقب على السلوك السيئ، وعلى العكس من ذلك تحفيز السلوك الجيد سواء بالنسبة الى الحلفاء أو الخصوم.
ومع تصاعد المنافسة بين القوى العظمى، أقر سينغ كيف استجابت بلدان المنطقة وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي لدوافع الحفاظ على علاقات جيدة مع بكين (التي يعترف سينغ بأنها توفر قدرات أكثر جاذبية في مجال تكنولوجيا الطاقة النظيفة مقارنة بالغرب)، فضلًا عن اغتنام تلك المنافسة لتعظيم الفوائد لأنفسهم.
وأشارت تحليلات ألترمان إلى أن نهج الصين في السياسة الخارجية يؤكد أهمية العلاقات الثنائية بين الدول بدلًا من المنظمات الإقليمية متعددة الأطراف. فقد ركزت انتباهها على خمس دول وهي: (السعودية، والإمارات، ومصر، وإيران، والجزائر). وقد أضاف فولتون وشومان أن شراكاتها مع الدول الأخرى لا يترتب عليها أي التزامات، بينما أشار سينغ إلى أن وسائلها في إظهار قوتها من خلال الدبلوماسية عبر استضافة القمم والمؤتمرات، وإرسال المبعوثين إلى الحكومات الإقليمية، والدعوة للانضمام إلى مؤسساتها البديلة مثل: منظمة شنغهاي للتعاون، لم تكن تلك الوسائل تعني التحلي بالنفوذ لسنوات عديدة لكن الوساطة في عام 2023 لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران أصبحت علامة أمام العديد من المراقبين في الغرب على أن بكين باتت تتهيأ لتجاوز الولايات المتحدة كوسيط إقليمي.
وخلال فترة الحرب الإسرائيلية على غزة منذ أكتوبر 2023، كتب فولتون وشومان أن الدبلوماسية الصينية نشطة بشكل غير عادي في قضية بعيدة عن حيّزها المباشر، مشيرين إلى أنها أصدرت بيانات مشتركة بالتعاون مع الحكومات العربية تدعو إلى وقف إطلاق النار، كما عُرضت كمكان محتمل للمفاوضات بين القادة الإسرائيليين والفلسطينيين. ومع ذلك، أشارا إلى أن مضمون انخراطها الدبلوماسي ركز على تأييد صيغة حل الدولتين من دون اقتراح أي أفكار جديدة أو مبادرات يمكن أن تسهم في تسهيل أي تسوية.
كما كتب ألترمان عن سعي المسؤولين في بكين إلى توسيع نفوذهم في المنطقة من دون الانغماس أو دفع الشرق الأوسط إلى عدم الاستقرار؛ لذا من الصعب تقييم مدى اهتمامها من خلال خطواتها الدبلوماسية المتمثلة في انتقاد المعايير الأمريكية المزدوجة وانعدام التحركات الجادة. وقد أشار فولتون وشومان إلى أن الممثل الصيني في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة استخدم حق النقض ضد قرار رعته الولايات المتحدة في مارس 2024 والذي يدعو إلى وقف إطلاق نار فوري في الحرب ضد غزة – وهو الأمر الذي كان الدبلوماسيون الصينيون يطالبون به بصوت عالٍ منذ بداية الحرب في أكتوبر السابق – وذلك لأنها كانت فرصة مباشرة لمهاجمة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وبالتالي تقويض منافستها الكبرى في المنطقة.
وعند قياس حدود العلاقات المستقبلية وخاصة مع الخليج العربي، يتم تسليط الضوء على أن دول المنطقة تعتمد على معلومات غير مباشرة حول تطور الصين السياسي والاقتصادي؛ حيث تعتمد هذه المعلومات على مصادر ثانوية مثل: (التقارير والمقالات باللغة الإنجليزية)؛ مما يؤدي إلى انطباعات قد تكون سطحية أو مضللة عنها.
بالإضافة إلى ذلك، مدى قلة رجال الأعمال أو المسؤولين من دول مجلس التعاون الخليجي الذين عاشوا في الصين ويمكنهم العمل كحلقة وصل بين الطرفين، كما أنه لا توجد جالية صينية تعيش في الخليج وتختلط بسهولة مع نظرائها العرب.
ورغم هذه القيود، لا يزال المعلقون الغربيون يشعرون بالقلق بشأن تراجع النفوذ الأمريكي وزيادة سمعة الصين، حيث حثوا الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس بايدن على اتخاذ إجراءات حاسمة وطويلة الأمد. وقد أكد سينغ أن التحدي الرئيسي الذي تواجهه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو كيفية التوازن بين الرغبة في تقليل وجودها الفعلي وتحسين قدرات شركائها، مع الحاجة أيضًا إلى معالجة التهديدات الإقليمية المستمرة والناشئة، في حين رأى ألترمان أنه يجب على صانعي السياسات أن يحددوا أولًا وقبل كل شيء مدى أهمية ومكانة المنطقة في السياسة الدولية الخاصة بهم.
وكجزء من ذلك، أشار ألترمان إلى أن واشنطن يجب أن تعيد تعريف دورها الأمني من الشرطي إلى الشريك، موضحًا أن ذلك لا يعني إنهاء الدعم الأمريكي المباشر، إلا أنه قد اعترف أن هذه عملية تستغرق عقودًا، ولكن يجب أن تكون أولوية استراتيجية للإدارات المستقبلية. كما حثهم على عدم الاعتماد على الرحلات السياسية لوزير الخارجية كحل لتغيير الأوضاع الجارية.
على العموم، لا بد من الاعتراف بأن دول المنطقة بما في ذلك دول الخليج العربي تستمر في رؤية تنافس الولايات المتحدة والصين فرصة لدعم مصالحها، ونظرًا إلى أن الشرق الأوسط كمنطقة أثبتت أنها ليست مجرد مسرح لأحداث ذات تأثير عالمي فحسب، بل لاعب رئيسي أيضًا، فإن البقاء في فئة لا تنتمي إلى أي من المعسكرات الجيوسياسية هو الأمر الأكثر فائدة لطموحاتها الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية على المدى الطويل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك