ربط المؤرخون تطور المجتمع البشري بثلاث مراحل أساسية بعد مرحلة الصيد والتقاط ما تجود به الأرض، انتقل فيها الإنسان من «الثورة الزراعية»، حيث كانت الأرض هي الثروة المحدِّدَة، انتقل بعدها نحو «الثورة الصناعية» التي اعتمدت على العمالة ورأس المال، ومن ثم «الثورة المعرفية» أو ما يعرف بالتحول الثالث نحو اقتصاد المعرفة، حيث الاعتماد على المعرفة الفنية والتقنية والإبداع والابتكار والمعلومات. فاقت هذه العوامل في أهميتها العوامل المادية السابقة لمستقبل الدول. أصبحت المعرفة أهم محركات التنمية المستدامة لدعم مستقبل مزدهر وعادل على نحو تسعى إليه خطط التنمية في العالم. وأصبح إنتاج المعرفة من خلال منظومة التعليم من القضايا الأساسية لنهضة الأمم والشعوب، وان مراحل التعليم الأولى حاسمة في تكوين الشخصية والبناء الفكري النقدي الخلاق وتنمية قدرات الحوار العقلاني والتوصل إلى الاستنتاجات المدعومة بأدلة.
في هذا السياق نرى أن قرار مجلس التعليم العالي بوضع مؤشرات تطور قطاع التعليم في المملكة هو خطوة مهمة ومطلوبة لتطوير التعليم وتعزيز مساهمته في الازدهار الاقتصادي وفي تقدم المجتمع. تتلخص فكرة المجلس العالي لوضع المؤشرات في انها اعتمدت تطوير قطاع التعليم العالي كهدف استراتيجي لتعزيز اقتصاد المعرفة وتطور المجتمع، تطلب ذلك وضع مؤشرات تتابع هذا التطور، متخذين محاور مثل جودة الأداء المؤسسي والبرامجي، والبحث والابتكار، والتدويل والحراك الأكاديمي (انفتاح مؤسسات التعليم العالي على العالم الخارجي، وحركة الطلاب والأكاديميين بين الجامعات محليا وخارجيا). يتلخص القرار في إلزام الجامعات بتخصيص وحدة تنظيمية لمتابعة الخريجين لقياس نسبة الحاصلين على عمل ومعرفة مدى تلبية المعارف والمهارات المكتسبة خلال دراستهم لمتطلبات سوق العمل، ومدى تطورهم الوظيفي، إلى جانب استطلاع آراء أصحاب العمل بشأن مخرجات برامجها الأكاديمية.
ان اداء التعليم العالي (الجامعات والمعاهد) والنتائج المترتبة عليه اقتصاديا ومجتمعيا، مرتبط بنتائج الثانوية العامة وما قبلها من مراحل، وكذلك البيئة المنزلية وتأثيرها في تكوين الطفل. فمثلا بالنظر إلى مؤشر التعليم العالمي لعام 2019 نجد انه يتكون من محورين هما مدخلات التعليم العالي وجودتها، وجودة مخرجاته. يتكون محور المدخلات من مؤشرات فرعية هي مستوى الإنفاق على التعليم، الالتحاق بالتعليم، والموارد البشرية المتاحة له. اما المخرجات فيعبر عنها بأربعة مؤشرات هي مستويات التخرج ونتائجها، العمل بعد التخرج، جودة الجامعات، وكفاءة الطلاب. يتضح من المحورين العلاقة بين ما قبل الجامعة (المدخلات) ومخرجاتها.
لذلك فإن متابعة نتائج ما تحققه الجامعات مهم وخطوة مباركة، لكنها لا تكفي لفهم المؤثرات على المستوى التعليمي وعلى الاداء في العمل لاحقا، إذا لا بد من جودة التعليم ما قبل الجامعة، والبيئة المحيطة بها. لذلك نرى أهمية رفد هذه النتائج بدراسات ميدانية تتناول بعض الجوانب الاجتماعية والأسرية والبيئة المؤسسية المحيطة بالطالب والمدرسة والأسرة الأكثر تأثيرا وتأثرا واستخلاص ما يمكن من نتائج ترفع من مستوى التعليم والعلاقة بين الفرد والمجتمع. وكذلك توسيع المؤشرات في المستقبل لتشمل المراحل ما قبل الجامعة، وكذلك التعليم التقني والتدريب الفني.
للتدليل على هذه العلاقة والتأثير على قدرات الناشئة قبل المدرسة وفي مراحل الدراسة الأولى، يقول أحد التربويين الأوروبيين إننا نرسل أطفالنا إلى المدارس لكي يتعلموا الخوف والانضباط على حساب الابتكار وملكات الادراك العليا التي يطلق عليها مهارات القرن الواحد والعشرين، مثل النقد وحل المشاكل واتخاذ القرار الخ. التخويف وكبح فضول الطالب في المدارس له تأثير على بناء شخصية الطالب، أي ان سلوك المدرس مع الطلبة اما ان يطور موهبة البحث والتساؤل والفضول ويبني شخصية قادرة على التجربة والتقييم العقلاني وتحمل الفشل ومعاودة التجربة والاصرار على النجاح، او يحبطها ويجعل منه انسانا متلقيا. كذلك نشرت جريدة «أخبار الخليج» تحقيقا لاختصاصيات الارشاد النفسي، مي العازمي ورجاء العجمي بعنوان (انزعوا الخوف من نفوس الطلبة 1-9-2024) تحذران من القلق الذي يمثل مشكلة في المرحلة الاعدادية والثانوية. وتدعوان الى الاهتمام بهذه الحالات، وخصوصا التغيرات السلوكية لدى الطلبة الملتحقين بالمدرسة أول مرة؛ كما تحذران من مشكلة الانسحاب لدى طلبة المرحلتين الإعدادية والثانوية. وتستعرضان جوانب من القضايا المؤثرة في السلوك والتحصيل بشكل عام في جميع مراحله. كما تطرقتا إلى معاملة الأهل للطلبة والتعامل مع مخاوف الأطفال وترددهم؛ وتخلصان إلى ان التهيئة الناجحة المشتركة بين البيت والمدرسة تساعد في رفع مستوى الوعي عند الطلبة.
قضية أخرى تحتاج مناقشة هي علاقة جودة المخرجات مع الحصول على عمل بعد التخرج. مؤشر العمل بعد التخرج له دلالة ليس فقط على جودة التعليم، لكنه يعكس كذلك السياسة الاقتصادية وحيوية الاقتصاد في البلد والقدرة على خلق فرص عمل للخريجين والحالة الديموغرافية. وبالتالي فهو مؤشر مهم لتحقيق الازدهار والرخاء ويعبر عن تحقيق طموح الشباب واندماجهم في سوق العمل وهذا يحتاج إلى وضع مؤشرات تعبر عن هذه العلاقة وتأثيرها؛ كذلك ينبغي توسيع مؤشر جودة الجامعات ليشمل البحث العلمي وإنتاج المعرفة ومدى تفاعلها مع القطاعات الإنتاجية في الاقتصادي. والبحث والتطوير والابتكار يشمل كذلك الابتكار في الإنتاج والابتكار المجتمعي (تقدم المجتمع والازدهار الاقتصادي معا) أي انه على الجامعات خدمة هذه القطاعات ليس فقط من حيث توفير القوى البشرية المدربة الماهرة، بل كذلك تنمية القدرات الريادية وخدمة المجتمع.
لذلك نطمح ان تتجه الخطوة القادمة لمجلس التعليم العالي نحو وضع مؤشرات التعليم العام ونتائجه بمراحله المختلفة، وبشكل خاص أداء الطلبة المتفوقين في مراحل التعليم اللاحقة (التوجيهية) وفي العمل وكيفية تعاملهم مع المجتمع وتفاعلهم مع قضاياه. نظرا إلى كون هذا المؤشر مرتبطا بسمات سوق العمل وبنيته، حبذا لو يخضع سوق العمل ايضا لدراسات ميدانية ترفد نتائج المؤشر وتوضح أسباب الاستجابة من عدمها.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك