إذا أردتَ أن تعرف معنى التلوث الضوئي وتأثيراته المحتملة عليك بشكلٍ مباشر وفوري، فكل ما عليك القيام به هي تجربة بسيطة في المنزل، وهي محاولة النوم أثناء الليل والأضواء مفتوحة، والأنوار عالية داخل الغرفة.
لا شك بأنك لا تستطيع النوم كلياً، أو في الأقل ستشعر بانقطاعٍ مستمر في النوم، وستُصيبك حالة نفسية من الاستفزاز والأرق، وستشعر في الصباح الباكر بالتعب والإرهاق، وربما الصداع الحاد بسبب قلة الراحة والاسترخاء أثناء النوم.
فهذه الحالة النوعية ببساطة شديدة هي ما نُطلق عليها علمياً بظاهرة أو مشكلة التلوث الضوئي، وهي التعرض للأنوار الساطعة، والأضواء العالية في أوقاتٍ غير مناسبة وغير مرغوبة فيها، وفي ظروف وأماكن لا يحتاج الإنسان إليها، وخاصة في البيئات الداخلية وفي غرف النوم، وفي فترات الليل وأوقات الراحة والخلود إلى النوم.
كما أن هذه الحالة التي تصيب الإنسان، تتعرض لها في الوقت نفسه وتعاني منها الحياة الفطرية من نباتات وحيوانات تعيش في البيئات الخارجية، فتُعكر وتلوث هذه الأنوار المضيئة في الليل صفاء ذلك الوقت ونقاوته من هذه الموجات المنيرة الساطعة لساعات طويلة تصل إلى اقتراب الفجر وشروق الشمس، فتُحدث خللاً في توازن حياتها، وشرخاً عميقاً في ممارساتها، واضطراباً غير محمود في تصرفاتها وسلوكياتها أثناء الليل الذي تحول نهاراً بسبب الأضواء الشديدة، فتتغير كل العمليات الحيوية داخل الجسم، كما تتغير في الوقت نفسه الأعمال التي تقوم بها من بحثٍ عن قوت يومها، أو من أجل التكاثر، أو النوم والراحة، حسب نوعية هذه الحيوانات وأسلوب حياتها.
وهذا الظاهرة المتمثلة في التلوث الضوئي وانخفاض الفترة الزمنية لوجود الظلام، والازدياد المطرد في الإنارة الليلية بدأت في العقود الماضية في التفاقم نتيجة لتوسع الدائرة الجغرافية للأضواء الساطعة إلى مناطق خارج المدن الحضرية، وارتفاع شدة الإنارة والضوء، إضافة إلى زيادة الفترة الزمنية التي تكون فيها المصابيح مفتوحة ومنيرة، وخاصة في السنوات القليلة الماضية ومع كثرة استخدام مصابيح «إل إي دي» (LED) الصديقة للبيئة والمنخفضة الاستهلاك للكهرباء.
ولكن ماذا يقول العلم والعلماء حالياً عن هذه الظاهرة المستجدة؟ وما هي نتائج الأبحاث الميدانية الكمية التي أجروها حول علاقة هذا التلوث الضوئي بالإنسان أولاً والحياة الفطرية ثانياً؟ وما هي آلية هذا التأثير على أعضاء أجسامنا؟
لقد تَنَبَهتْ «الجمعية الطبية الأمريكية» منذ يونيو 2012 لقضية التلوث الضوئي الداخلي والخارجي، وصبَّت جزءاً من اهتمامها العلمي والطبي بالجانب المتعلق بالعلاقة بين إفراط التعرض للأضواء أثناء الليل والإصابة بعدة أنواع من الأمراض، كالزهايمر والخرف المبكر، والسرطان. ولذلك أصدرت الجمعية بياناً رسمياً تحذيرياً قدَّمت فيه سياساتها العامة حول هذه القضية المحددة، إضافة إلى نشر الأدلة العلمية المتعلقة بالتلوث الضوئي في فترات الليل وقلة فترة حلول الظلام، ومردوداته على الصحة العامة لمن يعانون من ازدياد ساعات التعرض لهذا التلوث الضوئي. فقد لخص البيان هذه التأثيرات في حدوث خللٍ واضطرابٍ حاد في إيقاع الساعة البيولوجية للإنسان (Circadian rhythm)، أو الساعة الجزيئية، وانعكاسات هذا الاضطراب والتغير على العمليات الحيوية التي يقوم بها الجسم أثناء الليل، وعلاقته بالوقوع في شباك بعض الأمراض المزمنة كالزهايمر والخرف المبكر وبعض أنواع السرطان، حسب المنشور في سبتمبر 2013 في مجلة (American Journal of Preventive Medicine) تحت عنوان: «التأثيرات الضارة للإضاءة الليلية: تعقيب على البيان السياسي للجمعية الطبية الأمريكية».
فأي خللٍ في الساعة البيولوجية للإنسان، يعني إحداث تغيرٍ واضطراب في نظام ودورة النوم والاستيقاظ، مما يؤثر على العمليات الحيوية ووظائف أعضاء الجسم والخلايا العصبية بصفةٍ خاصة، فهي جميعها تُسهم في وقوع «التنكس العصبي» أو التحلل والتآكل العصبي (neurodegeneration)، وهو فقدان تدريجي مع الوقت لوظيفة الخلايا العصبية وموتها بعد حين، ثم أخيراً الوقوع في شباك الخرف المبكر والأمراض العصبية الأخرى. فالنوم عنصر أساسي للخلايا العصبية لإعادة توليد مرونتها، والتخلص من المركبات السامة التي تتراكم في جسم الإنسان ومنها المخ. وعلاوة على ذلك، فإن التلوث الضوئي المسبب للاضطراب في النوم يؤثر على نمط إفراز الجسم لمادة الميلاتونين (Melatonin) المعروف بهرمون النوم الذي تفرزه الغدة الصنوبرية (Pineal gland) أثناء وقت الظلام، حيث تعمل هذه المادة على تنظيم الساعة البيولوجية للإنسان، وتعمل ضد الالتهابات ونمو الأورام، كما تؤثر على الميكروبات الموجودة في المعدة، حسب الدراسة بعنوان: «الميلاتونين المنظم الرئيس لموت الخلية والتهابها»، والمنشورة في 8 أبريل 2019 في مجلة «موت وأمراض الخلية» (Cell Death & Disease).
كما نشرت دراسة في مجلة (Frontiers in Neuroscience) في السادس من سبتمبر 2024 تحت عنوان: «التعرض للنور الخارجي أثناء الليل (التلوث الضوئي) له علاقة بمرض الزهايمر»، حيث أشارت الدراسة إلى أن التعرض للأنوار العالية الخارجية في الليل لفترات طويلة ترفع من مخاطر الإصابة بالخَرَف المبكر، أو مرض الزهايمر، ويزيد من مستوى تفشيه بين أفراد المجتمع. كما أن هناك دراسة منشورة في (Geroscience) في فبراير 2024 تحت عنوان: «الإضاءة الصناعية والتنكس العصبي: هل التلوث الضوئي يؤثر على تطور مرض الزهايمر؟»، ومن أهم الاستنتاجات هي أن التلوث الضوئي يسهم في التحلل العصبي والإصابة بالأمراض المتعلقة بالأعصاب مثل الزهايمر.
وعلاوة على هذه الدراسات، فهناك بحث يتوغل في العلاقة بين التلوث الضوئي وأمراض السرطان، حيث نُشر البحث في 2016 في مجلة (Asian Pacific Journal of Cancer Prevention) تحت عنوان: «الإضاءة الصناعية أثناء الليل والسرطان: دراسة دولية». فهذه الدراسة الدولية التي أُجريت في 158 دولة، أشارت بأن مخاطر الإصابة ببعض أنواع السرطان كالثدي والمستقيم والقولون والرئة والبروستات تزيد مع التعرض طويل الأمد للضوء الداخلي والخارجي، وخلصت إلى أن هناك علاقة بين الوقوع في شباك السرطان والإضاءة والأنوار العالية في داخل وخارج المنزل.
كما نَشرتْ مجلة «نشينل جيوجرافيك» التاريخية المرموقة مقالاً عاماً في الخامس من سبتمبر 2024 تحت عنوان: «التلوث الضوئي يضر بصحتنا»، حيث أفادت بأن أجواء الليل تزيد نوراً وإضاءة سنة بعد سنة في معظم مدن العالم، وبنسبة تبلغ نحو 2% ومن مصادر كثيرة منها مصابيح الشوارع، والمحلات التجارية التي لا تُغلق أبوابها، والمجمعات، والعمارات، والمنازل من أجهزة التلفاز والكمبيوتر والهاتف المحمول، أي أن هناك اليوم إفراطاً مزمناً في التعرض للأنوار في ساعات الليل ولمستويات مرتفعة وساعات طويلة، مما يسبب مجموعة من الأمراض، بدءاً بالأرق إلى أمراض القلب وأخيراً السرطان، وقائمة الأسقام والعلل من التلوث الضوئي تطول وتتوسع وتتعقد، وترتفع بشكلٍ مطرد أعداد البشر الذين يعانون من هذه الأنوار العالية.
وهذا التلوث الضوئي يأتي من باب عبث الإنسان بالأرض، والتدخل في أنظمة الكون الربانية دون علم وخبرة مسبقة، والتوغل على التوازن الدقيق والهش بين مخلوقات الله، كإحداث اضطرابٍ وخلل بين وظيفة الليل ووظيفة النهار، فلكلٍ دوره ووظيفته في استدامة حياة الإنسان على وجه الأرض، وأي تعدٍ منهما على الآخر يعد فساداً بيئياً وصحياً ينعكس على سلامة الإنسان والمخلوقات الأخرى. فوظيفة النهار للعمل، وكسب الرزق، والجد والاجتهاد، ووظيفة الليل للراحة، والسكون، والدعة والاسترخاء، ولذلك يجب الحفاظ على جو الليل من «الظلمة»، والضعف في نسبة الأنوار والأضواء الداخلية والخارجية حتى يؤدي الليل مهمته في حياة الإنسان. ولذلك يُحدد القرآن ويَفْصِل بين الإثنين من الناحية الوظيفية عندما قال: «وجعلنا نومكم سباتاً، وجعلنا الليل لباساً، وجعلنا النهار معاشاً»، فظلام الليل وعَتْمتها ميزة عظيمة للإنسان والحياة الفطرية معاً، وظلام الليل واسْوداده نعمة ربانية يجب الحفاظ عليها حسب فطرة الله عليها، وندرك اليوم قيمتها مع تفشي ظاهرة التلوث الضوئي على المستوى الدولي، وبُروز جوانبها الصحية المسببة للأمراض والعلل.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك