التحكم في الموارد وتعظيمها كان ومازال عنصرًا مهيمنًا في العلاقات بين الدول، وكذلك سوق الطاقة العالمي، الذي قدّرت وكالة الطاقة الدولية قيمته بـ (2.4 تريليون دولار) عام 2022، ومثَّل ولا يزال عنصرًا ثابتًا وحاضرًا في المنافسة الاستراتيجية الدولية.
وقد ازدادت أهمية هذه السوق عقِب الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، حيث أحدثت الخلافات حولها -فضلًا عن المواقف المتباينة بين الولايات المتحدة وأعضاء «أوبك» (لاسيما المملكة العربية السعودية)- توترًا في العلاقات بين الشركاء الأمنيين، وسط حالة من عدم اليقين بشأن الطلب والعرض المستقبلي على النفط.
وأمام هذه التطورات، التي جسدت حقيقة «عصر انعدام أمن الطاقة»، قال «جيسون بوردوف»، مدير مركز «سياسات الطاقة العالمية» بجامعة كولومبيا، و«ميغان أوسوليفان»، أستاذة الشؤون الدولية بجامعة هارفارد، في مقال بمجلة «فورين أفيرز»؛ إن زيادة المنافسة العالمية على موارد الطاقة، أحدثت حالة من «الانقلاب الجيوسياسي» في نسق النظام الدولي، وسجل الكاتبان كيف أن اندلاع الحرب في أوكرانيا، والعقوبات الانتقامية بين الغرب والكرملين بشأن إمدادات الطاقة، غيّبا ما كان يُعرف بـ«أمن الطاقة» العالمي.
وذكر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن الدول الأوروبية عام 2022 «قطعت أشواطًا كبيرة» نحو تقليل اعتمادها على واردات النفط والغاز الروسي، ما أدى إلى ارتفاع التضخم الذي لا يزال يُلقي بظلاله على اقتصادات دول القارة، وتوقع «صندوق النقد الدولي» في ضوء ذلك؛ ألّا يزيد النمو الاقتصادي للاتحاد الأوروبي عن 0.8% فقط عام 2023، وأن ينكمش النمو الاقتصادي في المملكة المتحدة بنسبة 0.3%.
وفي حين أن روسيا عانت بشكل لا يمكن إنكاره من تداعيات اقتصادية سلبية كبيرة، جرّاء حربها في أوكرانيا وما تلاها من عقوبات، فإن وضعها كمُصدِّر رئيسي للطاقة، أكسبها القدرة على إحداث انتكاسات كبيرة على التحالف الغربي، وبالتالي زيادة الجدل في دوائر السياسة الغربية حول الثمن الذي سيدفعه التحالف عبر الأطلسي سواء من أجل إنزال الهزيمة بروسيا عسكريًا، أو الضغط على الأوكرانيين لقبول تسوية سياسية.
ورأت «فورين أفيرز»، أن التنافس الدولي المتزايد بين الصين والولايات المتحدة من المرجح أن يلقي بظلاله هو الآخر على سوق الطاقة العالمية، حيث وصفته بأنه صراع «أكثر أهمية» بالنسبة إلى الجيوسياسية العالمية على المدى الطويل، خاصة أن كلا البلدين «يؤسسان استقلالهما» في مجال الطاقة، ويسعيان إلى تعزيز مصالحهما الاستراتيجية والاقتصادية، وتنويع وبناء شراكات قوية مع دول في جميع أنحاء العالم.
ويُرجح أن تؤثر هذه التغيرات بشكل كبير في علاقة دول الخليج العربي ببقية دول العالم، خاصة أن المملكة السعودية وحدها تزود الصين بما يصل إلى 18% من احتياجاتها من النفط الخام، وسط قلق تبديه الدول الغربية بشأن الطموحات السياسية الصينية المستقبلية في المنطقة، وهو ما أشار إليه موقع «بارونز» الذي أكد أنه؛ لا يزال هناك «مجال هائل للنمو» في العلاقات الاقتصادية الخليجية ـ الآسيوية.
يأتي ذلك مع أحدث تقرير صادر عن السوق النفطية لـ«وكالة الطاقة» في مارس 2023، الذي توقع أن الطلب العالمي على النفط «سيتسارع بشكل حاد» خلال العام المقبل، خاصة مع قيام روسيا بتخفيض إنتاجها بدلًا من الخضوع لسقف الأسعار الدولي، وفي وقت «يتقلص» فيه احتياطي النفط الاستراتيجي الأمريكي بعد أن أيدت إدارة «بايدن» عمليات سحب متعددة خلال عام 2022.
بالتزامن مع هذا الواقع المتغير والمتسارع، أكدت «فورين أفيرز» على الموقف السياسي القوي للمملكة العربية السعودية باعتبارها «الدولة الوحيدة التي لديها «قدرة إنتاج نفط إضافية فعالة»، وأقرت «الدورية» كيف أن الرياض «أصبحت الآن أقل اهتمامًا بكثير بتلبية طلبات واشنطن» بشأن السياسة النفطية، وهو الأمر الذي يتضح من قيادتها تخفيضات إنتاج «أوبك بلس» عامي 2022 و2023، مقابل الرغبات المعلنة لـ«البيت الأبيض»، وآخرها تخفيض أبريل 2023 بمقدار 1.66 مليون برميل يوميًا.
وأوضحت «كارين إي يونج» في مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية أن هذا الموقف من جانب الرياض أظهر مرة أخرى «ملامح الطموحات الجيوسياسية السعودية»، وعزز التصورات بأن المملكة «تتبع بشكل متزايد استراتيجية دبلوماسية لعدم الانحياز».
لكن هذا لا يعني أن الموقف الحالي القوي للرياض ودول الخليج الأخرى، والازدهار المستمر في مستوى الإيرادات جراء مبيعات الطاقة، يعتبر أمرًا مضمونًا، فبينما ازدهرت معدلات أرباح صادرات النفط والغاز خلال عام 2022 وسط حالة التعافي العالمية من أزمة كوفيد-19، وعدم اليقين بشأن إمدادات الطاقة الغربية بعد بداية اندلاع الحرب الأوكرانية، أشارت «فورين أفيرز» إلى أن السنوات السابقة شهدت «عوائد ضعيفة» للدول المصدرة، وحالة من «عدم اليقين بشأن حجم الطلب المتوقع على الطاقة».
ولا تزال هناك حالة من القلق المستمرة بشأن وضع الاقتصاد الصيني بالنسبة إلى تلك الدول، لاسيما مع احتمال عودة عمليات الإغلاق للسيطرة على انتشار موجة أخرى من جائحة فيروس كوفيد-19، وهو ما يشير إلى احتمال انخفاض الطلب في أسواق الصادرات النفطية الرئيسية.
هناك عنصر آخر أصبح يتحدى المكانة الرائدة لدول الخليج في سوق الطاقة العالمية، وهو تركيز الغرب على تعزيز مصادر الطاقة المتجددة من أجل تحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول منتصف القرن الحالي، ومع ذلك، فإن الحرب الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية الدولية، أجبرت الكثير من الدول على وضع الأهداف طويلة الأجل للتصدي لتغير المناخ «خلف» الاحتياجات قصيرة الأجل الخاصة بالحكومات الغربية لتلبية متطلبات الطاقة، ورغم أن الوقود الأحفوري قد يفقد أهميته الاستراتيجية، ولن يكون موجودًا بحلول نهاية القرن الحالي، لكن هذا المورد سيظل هدفًا جيوسياسيًا رئيسيًا للدول في الوقت الراهن والمستقبل المنظور.
وبينما أشار «بوردوف وأوسوليفان» في «فورين أفيرز» إلى أن الأحداث التي وقعت خلال العام الماضي، أظهرت أن التحول العالمي إلى مصادر الطاقة المتجددة، وما يفرضه واقع الجغرافيا السياسية العالمية، هي قضايا ذات ديناميكيات «متشابكة»، فقد أكدا أنه قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، كان صانعو السياسة الغربيون، والكثير من الأكاديميين والمحللين «يتناولون المزايا الجيوسياسية لتحول الدول إلى طاقة أنظف وأكثر اخضرارًا»، على أساس أن هذا التحول لن «يساعد فقط في مكافحة ظاهرة تغير المناخ»، ولكن أيضًا «سيضع حدًا» لتغيرات الجغرافيا السياسية الذي يقرها نظام الطاقة التقليدي».
وفي حين كانت هناك رؤى بأن الدروس المستفادة من الحرب الأوكرانية، ستؤدي إلى تغييرات طويلة الأجل في العلاقة التي تحكمها إمدادات الطاقة بين الغرب وبقية دول العالم، فقد كتب «بوردوف وأوسوليفان» أن تلك الدروس «عززت إرادة الكثيرين في أوروبا والولايات المتحدة بالابتعاد عن موارد النفط والغاز والفحم»، حيث إن قانون خفض معدلات التضخم لإدارة «بايدن» سيعمل على ضخ (400 مليار دولار) في برامج أمن الطاقة وتغير المناخ ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي، عبر تقديم إعفاءات ضريبية وضمانات قروض للشركات التي قد تستثمر في الطاقة النظيفة وفي جهود خفض الانبعاثات الكربونية.
وتشير تأكيدات وكالة الطاقة الدولية أنه إذا حقق العالم على أرض الواقع صافي انبعاثات صفرية عام 2050، فسيكون من الضروري الوضع في الاعتبار أن نصف استهلاك الطاقة بالكامل سيكون عن طريق الاعتماد على توليد الكهرباء، وعند النظر إلى أن استهلاك الطاقة بالكامل عبر الكهرباء يقف حاليًا عند 20% فقط، فإن الأمر قد يؤدي إلى احتمال حدوث أزمات طاقة مستقبلًا بين القوى العظمى من أجل القضاء على أي أمال متبقية بتحقيق مزيد من التحول للطاقة النظيفة.
علاوة على ذلك، حتى في حالة حدوث التحول نحو الاقتصاد الأخضر في سوق الطاقة العالمية، فإن هذا لا يعني أن الغرب سيكتسب سيطرة واضحة على منافسيه. فمع قيام دول الخليج بتسريع وتيرة استثماراتها في مصادر الطاقة المتجددة، وهي الطاقة الشمسية وإنتاج الهيدروجين، فقد أولت الصين أيضًا اهتمامًا كبيرًا لمبادراتها الخاصة بتوليد الطاقة الخضراء، حيث كتب «سام ميريديث» من «سي إن بي سي» أن بكين «تُعرف بأنها رائدة العالم بلا منازع في التوسع في مجال الطاقة المتجددة».
وسلطت «فورين أفيرز» الضوء على مخاوف المسؤولين الأمريكيين من أن الغرب يمكن أن يصبح أكثر اعتمادًا على الصين بسبب «هيمنتها على سلاسل التوريد الحالية لتقنيات الطاقة النظيفة»، ففي الوقت الذي تسرع فيه الولايات المتحدة وارداتها من الألواح الشمسية الصينية الصنع، فإن اهتمام وزارتا التجارة والعلوم والتكنولوجيا الصينية بحظر تصدير المزيد من التقنيات المتقدمة المستخدمة في الألواح الشمسية، وفقًا لما ذكرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، من شأنه «تأمين هيمنة الصين على قطاع توليد الطاقة الشمسية» و«تعطيل الجهود التي تبذلها الدول الأخرى لبناء سلاسل توريد خاصة بها».
وعلى العموم، وفي ظل مرور سوق الطاقة العالمي بسلسلة من التغييرات الجوهرية، لم يعُد «التعريف البسيط» لأمن الطاقة على أنه «توافر» الإمدادات النفطية الكافية بأسعار معقولة، «مناسبًا ومقنعًا في الخطاب الغربي، وعليه فقد حثت «فورين أفيرز» صانعي السياسة على «إعادة تعريف مفهوم أمن الطاقة»، وكذلك «تطوير وسائل جديدة لضمان تحقيقه» مع تأكيد أن «أزمات الطاقة المستقبلية يمكن أن تحبط طموحات التوصل إلى الانبعاثات الصفرية وجهود معالجة ظاهرة الاحترار».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك