لا شك أن إقبال المملكة العربية السعودية على إنشاء أربع مناطق اقتصادية خاصة، مع إعلان كل دول «التعاون الخليجي» سياسات محفزة لجذب الاستثمارات الخارجية، من شأنه تشجيع انتقال رؤوس الأموال الخليجية للاستثمار في الفرص الواعدة في كلٍ منها، ما يعزز من التكامل الاقتصادي بينها، الذي يسعى المجلس إلى تحقيقه لمنطقة يجمع بين شعوبها من الروابط الاجتماعية والثقافية والتاريخية والمصير المشترك، ما يفوق ما هو قائم في أي تجمع إقليمي آخر.
وفي مسيرة مجلس «التعاون الخليجي» تعددت الاتفاقيات والقرارات التي تعمل على تعزيز التكامل بين شعوبها وصولًا إلى وحدتها على كل الأصعدة، غير أن من أهم ما يعزز هذا التكامل ويسرع خطواته هو تعزيز البُنى التحتية لهذا التكامل، والتي يُعد أبرزها أنابيب نقل النفط ومشروعات النقل والربط الكهربائي.
وتُعد خطوط أنابيب نقل النفط من السعودية إلى البحرين من أقدم هذه البُنى، فبعد افتتاح البحرين أول مصفاة للتكرير عام 1936، أخذت هذه المصفاة في تكرير جزء من النفط السعودي، الذي تدفق إليها عبر مد خط أنابيب عام 1945، وفيما يبلغ إنتاج المصفاة اليومي 260 ألف برميل يوميًا، فإن ما يصل إليها يبلغ متوسطه اليومي 220 ألف برميل.
وفي 3 أكتوبر 2018، أعلنت شركة نفط البحرين «بابكو» و«أرامكو» السعودية عن استكمال مشروع خط الأنابيب الجديد الذي ينقل 350 ألف برميل يوميًا، ويبلغ طول هذه الأنابيب 115 منها 42 كم في المياه، و73 كم على اليابسة، وبلغت استثمارات «بابكو» فيه نحو (6 مليارات دولار) وهو من أهم مشاريعها، ويرتبط مباشرة بمشروع توسعة مصفاة البحرين، الذي بلغت نسبة الإنجاز فيه أكثر من 87% نهاية عام 2022، ويُتوقع الانتهاء منه خلال عام 2023.
ويدعم خط أنابيب «دولفن» للغاز الرابط بين قطر والإمارات وسلطنة عُمان، التكامل الاقتصادي بين الدول الثلاث، فضلًا عن إسهاماته في تحقيق أمن الطاقة، وقد بدأ تشغيله عام 2007 وتديره شركة «دولفن» للطاقة المحدودة التي تأسست في 1999، وفيما تسهم شركة «مبادلة» الإماراتية بـ51% من رأسمال الشركة، فإن استثمارات المشروع تبلغ نحو (6.2 مليارات دولار)، ويوفر 30% من احتياجات الإمارات. وينقل الخط غاز حقل الشمال القطري إلى كل من الإمارات وعمان، ووصل إلى كامل طاقته الإنتاجية في فبراير 2008، ويبلغ طوله نحو 364 كم، بطاقة تصل إلى 3.2 مليارات قدم مكعبة يوميًا.
وخلال زيارة سلطان عُمان للسعودية في فبراير 2021، طرح بقوة مشروع خط أنابيب جديد ينقل النفط الخليجي إلى «بحر العرب»، وذلك لتأمين نقل صادرات النفط الخليجي للأسواق العالمية من خلال بحر العرب مباشرة عبر سلطنة عُمان، بدلًا من الاعتماد الكلي على مضيق «هرمز» الذي يُعد الشريان الرئيسي لمرور غالبية الصادرات النفطية الخليجية.
ومن أقدم البُنى التحتية الرابطة بين دول المجلس، جسر «الملك فهد» بين السعودية والبحرين، الذي يبلغ طوله نحو 25 كم، وقد افتتح رسميًا في 25 نوفمبر 1986، ومنذ هذا التاريخ حتى اليوم، وهو يحقق عوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة ليس للسعودية والبحرين فقط، ولكن لكل دول مجلس «التعاون الخليجي»، وفيما سجل العبور في 4 مارس 2023 أكبر رقم قياسي بأكثر من 136 ألف مسافر، فقد كان لهذا الجسر دوره الكبير في تعزيز السياحة الوافدة والتبادل التجاري بين البلدين وبقية دول التعاون.
ولما لهذا الجسر من أهمية، أقدمت البحرين على طرح مشروع جسر آخر مواز لجسر «الملك فهد»، وهو جسر «الملك حمد»، الذي تم إعلانه لأول مرة في سبتمبر 2014، وهو مكون من أربعة مسارات للمركبات ومسارين للسكة الحديد. وبمناسبة زيارة جلالة الملك للسعودية في مارس 2022، وجه جلالة الملك وخادم الحرمين الشريفين بسرعة تنفيذ هذا المشروع الحيوي، عملًا بمضامين إعلان «العلا» الصادر في 5 يناير 2021.
ويؤمل أن يرى مشروع جسر «المحبة» بين قطر والبحرين طريقه إلى التنفيذ، وهو المشروع الذي طرح للمرة الأولى عام 1999، وجددت المنامة دعوتها إلى استئناف المباحثات حوله في يناير وفبراير 2021، وفق الآليات المتفق عليها في بيان «العلا»، ويبلغ طول هذا الجسر 40 كم، وقد أسس البلدان في مايو 2008 مؤسسة تعمل على الدراسات الفنية الخاصة به.
وإضافة إلى مشروعات الطرق الحالية التي تربط كل دولة من دول مجلس «التعاون الخليجي» بإجمالي 1069 مشروعا بقيمة إجمالية تبلغ نحو (122.6 مليار دولار)، يتم التخطيط لإنشاء كثير من الطرق التي تربط بين دول المجلس وبعضها، وتشمل هذه المشروعات الطريق السريع الذي يربط السعودية بعُمان بطول 680 كم، ما يقلل زمن السفر بينهما، ومشروع طريق «المفرق–الغويفات الدولي السريع» الرابط بين أبوظبي والحدود السعودية بقيمة تزيد على (5.3 مليارات دولار).
ويُعد مشروع الربط بالسكك الحديدية الذي أطلقه «التعاون الخليجي» في 2009 من أهم مشروعات البنية التحتية الرابطة بين دول المجلس، وذلك بطول 2117 كم، ويربط مدينة الكويت مرورًا بكل دول المجلس وصولًا إلى مدينة مسقط بسرعة قطار نقل ركاب 220 كم في الساعة ونقل بضائع بسرعة 120 كم في الساعة، وكلفة إجمالية تفوق (15.4 مليار دولار)، ويعد المشروع حال اكتماله ثاني أطول سكة حديد في آسيا بعد سكة حديد الصين.
وكان من المخطط أن يُستكمل تنفيذ وتشغيل المشروع خلال عام 2018، لكن انهيار أسعار النفط منذ منتصف 2014 أخَّر التنفيذ، فيما أكدت دراسة لـ«منتدى الرياض الاقتصادي» في مارس 2023 أن المشروع سيرفع مساهمة قطاع النقل في الناتج المحلي الإجمالي بـ10%، بل وناقش فريق الخبراء التابع للمشروع الإعداد لطرح الخطة التشغيلية ونظام إدارة الأصول للمنافسة، كما شددوا على أهمية تحديث الملاحق، وتحديد الملاحق والوثائق اللازم استكمالها.
ويعزز المشروع تنافسية السلع الخليجية في أسواقها، حيث يخفض من كلفة النقل، كما يعزز من مكانة المنطقة كمركز للخدمات اللوجستية، وجاذبية السوق الخليجي للمستثمرين فيما يسهل أيضًا حرية الحركة والتنقل للمواطنين والمقيمين إلى جانب دعم الاستثمارات المشتركة، وتوفير فرص عمل إضافية سواء في السكك الحديدية أو الخدمات المرتبطة، كما يشجع تطوير الصناعات الوطنية ذات الصلة.
ويُتوقع طبقًا لدراسات المشروع أن يبلغ عدد المسافرين المستخدمين له حوالي (8 ملايين سنويًا) بحلول 2050، وسيتم ربط المشروع بشبكة السكة الحديد السعودية الداخلية، كما سيتم الربط مع محطة «الملك حمد الدولية للركاب» ومشروع شبكة «مترو البحرين» الواصلة إلى مبنى المسافرين في «مطار البحرين الدولي»، والمناطق التجارية والسكنية في المملكة.
وقد اعتمد وزراء النقل والمواصلات بدول المجلس في يناير 2022، البرنامج الزمني للمرحلة التأسيسية للهيئة الخليجية للسكك الحديدية -التي نشأت بقرار المجلس الأعلى في دورته 42- وتمتد 12 شهرًا، بهدف التنسيق بين الدول الأعضاء لمتابعة تنفيذ وتشغيل المشروع، باعتباره خطا إقليميا واحدا قابلا للتشغيل البيني.
وفي فبراير 2023، وقعت شركة «عُمان» و«الاتحاد» للقطارات مع شركة «مبادلة» للاستثمار؛ اتفاقية تعاون لتطوير شبكة للسكة الحديد بين عُمان والإمارات تمتد على مسافة 303 كم، وتبلغ استثماراتها الإجمالية نحو (3 مليارات دولار)، وشملت الاتفاقية تشكيل مجموعات عمل ولجنة مشتركة وتطوير دراسات الجدوى والاستثمار المشترك في هذا المشروع وتعزيز قيمته المضافة، ويربط المشروع بين «صحار» و«أبو ظبي»، وبين «صحار» و«العين».
ومن أهم مشروعات ربط البنى الأساسية التي أقرها مجلس «التعاون الخليجي»، يأتي مشروع الربط الكهربائي، الذي جاء تنفيذًا لقرار القمة الخليجية في دورتها الـ18 في الكويت في ديسمبر 1997، ويضمن تخفيض الاحتياطي المطلوب في كل دولة، والتغطية المتبادلة في حالة الطوارئ، والاستفادة من الفائض، وتقليل كلفة إنتاج الطاقة الكهربائية.
وقد تم تأسيس هيئة الربط الكهربائي لدول المجلس في 2001 كي تقوم بإنشاء المشروع وتشغيله وصيانته، وفي ديسمبر 2005 تم توقيع عقود تنفيذ المرحلة الأولى وتشمل؛ البحرين والسعودية وقطر والكويت بقيمة تجاوزت (مليار دولار أمريكي)، وتم إنجاز هذه المرحلة في 2008، وفي 20 أبريل 2011 أصبحت الشبكة تغطي الإمارات أيضًا، وفي 20 نوفمبر 2014 انضمت سلطنة عُمان.
وينظم العلاقة بين الدول الست المشتركة في هذا المشروع، الاتفاقية العامة للربط الكهربائي التي أقرها وزراء الكهرباء والماء في 2009، وغدت سارية المفعول من 23 مارس 2009. وهذا المشروع الذي يمتد عبر 1000 كم من الكويت شمالًا إلى جنوب الخليج العربي، يوفر أمن الطاقة، ويرفع مستوى الموثوقية والأمان للأنظمة الكهربائية الخليجية، ويضمن تجنب أي انقطاع كلي أو جزئي للكهرباء بنسبة 100%.
ومنذ بدء تشغيله حتى نهاية عام 2022، حقق المشروع وفورات في التكاليف بلغت نحو (ملياري دولار)، وفي ديسمبر من نفس العام، قامت هيئة «الربط الكهربائي الخليجي» بالتعاون مع وزارة «الكهرباء والماء والطاقة المتجددة» الكويتية بتنفيذ مشروع استراتيجي لتوسعة الربط الكهربائي الخليجي مع الكويت، وهو مشروع محطة «الوفرة» في الكويت، وتتيح هذه المحطة لأول مرة في تاريخ هيئة «الربط الكهربائي الخليجي» ربط الكهرباء إلى خارج الدول الأعضاء في الهيئة؛ بدءًا بالعراق.
وفي العموم، يبدو أن دول مجلس «التعاون الخليجي» تنطلق بعد إعلان قمة «العلا» إلى الإسراع في تعزيز خطوات التكامل بينها، مستثمرة الوفرة التي أحدثتها زيادة عوائدها النفطية، والأجواء العالمية التي تدفع بأهمية الاعتماد على الذات، مدركةً أنها بالتكامل بينها تستطيع بقدرة أكبر تعزيز اقتصادها المتنوع، وتقديم نفسها ككتلة جغرافية وثقافية واحدة، وسوق واحد يتسم بالقدرة التنافسية العالية والجاذبية الأعلى للاستثمار.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك