كثيرة هي الدراسات التي تناولت المبادرات التي طرحت بشأن أمن الخليج العربي بعضها إقليمي والبعض الآخر عالمي سواء من جانب قوى كبرى أو منظمات مثل حلف شمال الأطلسي «الناتو«، ومع أهمية تلك المبادرات وخاصة تلك التي تضمنت آليات حقيقية لمواجهة التهديدات الأمنية لدول الخليج العربي، ففي تصوري أن تأسيس مجلس التعاون ذاته في 25 مايو 1981 ليضم 6 دول خليجية تجمعها قواسم مشتركة على الصعد السياسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية هو الركيزة الأساسية للأمن الإقليمي لثلاثة أسباب أولها: إن توقيت تأسيس المجلس والأهداف التي تضمنها الميثاق المنشئ تؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك أن القرار الاستراتيجي لدول الخليج العربي هو مواجهة التحديات من خلال مظلة جماعية، وثانيها: إن المفهوم الجماعي لأمن الخليج العربي جسدته آليات عملية وخاصة اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك عام 2000 والتي تعادل مادتها الثانية المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو ومضمونها أن أي اعتداء على دولة في مجلس التعاون يعد اعتداءً على كل الدول الأعضاء بما يستوجب الرد، فضلاً عن آلية الأمن الذاتي المتمثلة في قوات درع الجزيرة وتطويرها عبر العقود الماضية، وقد وجدت تلك المضامين سبيلها نحو التطبيق خلال كل الأزمات الأمنية الإقليمية التي واجهتها دول الخليج العربي خلال تاريخها، وثالثها: اضطلاع المجلس بمهمة تحقيق التوازن الإقليمي الذي يعد أساس الأمن الإقليمي، بمعنى آخر إنه إذا ما نظرنا إلى تفاعلات القوى داخل الأقاليم في مناطق مختلفة من العالم فإنها تدور حول ثلاث قوى وفق ما توافق عليه باحثو العلاقات الدولية والأمن الإقليمي، وهي القوة التدخلية التي لها مصالح في الإقليم والقوة المناوئة التي تعارض أي تدخلات خارجية ثم القوة الموازنة التي بإمكانها ضبط ذلك الصراع الإقليمي -العالمي.
ولعل الأمر الأهم هنا هو أن مجلس التعاون كغيره من تنظيمات الأمن الإقليمي قد تطور سواء على الصعيد المؤسسي أو ضمن رؤيته للشراكات الإقليمية عبر سلسلة من الحوارات الاستراتيجية مع التنظيمات الإقليمية والعديد من دول العالم، فمؤسسيا استحدث المجلس في عام 1997م هيئة استشارية مكونة من 30 عضوا بواقع خمسة أعضاء لكل دولة خليجية وتتمثل مهامها في تقديم رؤى علمية رصينة بشأن القضايا التي تتم إحالتها إليها من جانب المجلس الأعلى وهو ما يعني حرص مسؤولي دول الخليج على التعرف على التحديات من قرب ومن منظور أبناء دول الخليج العربي ذاتهم، بالإضافة إلى استحداث آلية القمة التشاورية عام 1999 وتتسم بمرونة تختلف عن آلية القمم الرسمية، فلا ترتبط بجدول أعمال أو متطلبات بروتوكولية وتتمثل أهميتها في كونها آلية جماعية فعالة لمواجهة أي مستجدات تتطلب تشاوراً عاجلاً بشأنها، كما يحرص مجلس التعاون على ترسيخ شراكاته مع مختلف التنظيمات المماثلة في العالم وكذلك العديد من الدول من خلال الحوارات الاستراتيجية التي تعد آلية لدول الخليج للتعبير عن مصالحها بشكل جماعي تجاه الأطراف المختلفة.
ومع أهمية ما سبق فإنه في تقديري يظل هدف تحقيق توازن القوى الإقليمي هو أهم تلك الأهداف على الإطلاق لثلاثة أسباب أولها: البنية الأمنية لمنطقة الخليج ودول جوارها تشهد فجوة في القوة وهي التي كانت سبباً في توترات إقليمية لعقود بعضها تمت إدارتها والبعض الآخر خرج عن السيطرة نحو حروب ضروس لم تستطع دول الخليج العربي أن تتخذ موقفاً حياديا تجاها مع سعي الأطراف المتصارعة لاستهداف مصالح تلك الدول، وثانيها: إن الإقليم الخليجي كان- ولايزال- من أكثر الأقاليم في العالم التي تشهد تنافساً إقليمياً وصراعاً إقليمياً-دولياً ليس فقط بسبب أهميته النفطية بل بسبب الموقع الاستراتيجي على الممرات البحرية الحيوية للتجارة العالمية، وثالثها: إنه من خلال تحليل تجارب الأمن الإقليمي الناجحة فإن مرتكزها الأساسي كان هو توازن القوى، وهو المحور الذي تدور حوله أحداث الأزمة الأوكرانية الراهنة، في ظل رؤية طرف ما لتغيير موازين القوى ومناوئة طرف آخر لتلك الرؤية الأمر الذي أوجد صداما مسلحا عنيفا.
ولا يتسع المجال هنا لسرد مجالات التعاون الجماعي في تجربة مجلس التعاون ربما كانت هناك بعض المسارات تسير بوتيرة سريعة نسبياً مقارنة بأخرى ولكن التساؤل الأهم ما المستجدات التي يتعين على المجلس التعامل معها سواء على صعيد الخليج أو الإقليم أو العالم؟
مما لاشك فيه أن واقع دول الخليج اليوم يختلف جذرياً عما كان عليه قبل أربعة عقود في كل مناحي الحياة، ومن ذلك على سبيل المثال بقدر ما أتاحته التكنولوجيا من فرص بقدر ما أوجدته من تحديات ما يدعو المجلس إلى المزيد من دراسة تلك التحديات وكيفية ترسيخ التعاون الخليجي لمواجهتها، وإقليمياً، هناك حالة من التأثير والتأثر الشديد بين إقليم الخليج ومناطق جوار فرعية من بينها القرن الإفريقي وشرق المتوسط، فضلاً عن التحولات الإقليمية الراهنة من حالات التنافس إلى الحوار وجميعها تطورات مهمة تعزز من الدور المستقبلي لمجلس التعاون، وعالمياً فعلى الرغم من أن أداء مجلس التعاون يتكامل مع المنظمة الأممية وفقاً لما أتاحه الفصل الثامن من الميثاق من ركائز قانونية لعمل تنظيمات الأمن الإقليمي، إلا أن بعض الأزمات الدولية وما تستدعيه من انشغال أممي تتيح الفرصة الأكبر للأمن الإقليمي للعمل وخاصة تجاه تسوية بعض الأزمات الإقليمية وهو ما نجده الآن في الجهود الخليجية والعربية تجاه الأزمة السورية وكذلك الوضع في اليمن.
وعود على ذي بدء ومع أهمية الأهداف التي توخاها المجلس منذ تأسيسه وحتى الآن فإن الركيزة الأساسية للمجلس كقوة إقليمية تتمثل في الأمن الذاتي لدول الخليج العربي وهو ما يتطلب تعزيز القدرات الأمنية والدفاعية لدول الخليج العربي بما يأخذ بالاعتبار التطور النوعي في مفهوم الأمن وكذلك التهديدات، وتصدر التهديدات السيبرانية والأمن البحري وكذلك تحديات التغير المناخي المشهدين الإقليمي والعالمي بما جعلها أولويات أمنية للعديد من دول العالم ومن بينها دول الخليج العربي، ويتمثل التحدي الأكبر في مخاطر توظيف التكنولوجيا على نحو سيئ من خلال استهداف المنشآت الحيوية في دول المجلس.
إن أداء التنظيمات الإقليمية لا يرتبط فقط بأهدافها ورغبة أطرافها وإنما بما قد تتيحه البيئة الإقليمية وكذلك الدولية من فرص وما قد تفرضه من تحديات بما يتطلب تعزيز المرونة والتكيف كسمتين لعمل تلك التنظيمات التي لا تؤدي ضرورة وظيفية تتكامل مع المنظمة الأممية فحسب بل إنها تظل صمام أمان لأمن دولها الوطني والإقليمي والعالمي في ظل تحولات متسارعة تتطلب ليس فقط استمرارية عمل تلك التنظيمات بفاعلية بل في الوقت ذاته استحداث ما يلزم من آليات للتعامل مع تلك التطورات.
{ مدير برنامج الدراسات
الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك