رأيتُ صورا لبشر منشورة في «مجلة سَيندي تايمز البريطانية (The Sunday Times Magazine) في التاسع من أبريل 2023، ولكن ما هم ببشر، وشاهدتُ صوراً لجسد الإنسان على غلاف هذه المجلة، ولكنها في الوقت نفسه ليست صورا لجسد إنسان، فهل هذه الصور تمثل أشباه البشر؟ ولمن هذه الصور؟ وهل هي صور لغزاة نزلوا علينا من كواكب الفضاء؟
فعلى غلاف المجلة التي هي أمامي الآن، أُشاهد صورة لعائلة بريطانية مكونة من رجلٍ وزوجته وطفلتين، ولكن عندما دققت أكثر في صورة الرجل وتفحصتها جيداً، رأيتُ العجب العجاب، فالرجل سليم الوجه، مكتمل العينين والأذنين والأنف والفم، فلا تبدو عليه أية علامات غير عادية وغير طبيعية، كما هو بالنسبة لباقي الرجال، ولكن عندما نزلت أسفل الصورة وإذا بي لا أرى وجود أية أطراف كاملة للرجل في يديه، فعدد الأصابع أقل من خمسة، وأشكالها غريبة وشاذة ومخيفة في الوقت نفسه لم أرها من قبل في حياتي، حتى في أفلام الهوليود السينمائية، كذلك لم أجد في الصورة أية آثار أو إشارات لوجود أرجل صحيحة وسليمة وطبيعية، أو أذرع كاملة بشرية، وكأنه نصف رجل، وليس رجلا كاملاً صحيح القوام.
فهذه الصورة المرعبة تصف قصة أحد الناجين من الكرب الإنساني العظيم، وهو مازال حتى الآن حيا يرزق يقص حالته البائسة، ويروي حكايته مع المعاناة الجسدية والنفسية التي نزلت عليه طوال سنوات حياته المريرة، فهو يبلغ من العمر 61 عاماً، واسمه «كيفن دونيلون» (Kevin Donnellon) من مدينة ليفربول الإنجليزية العريقة.
وهذه الصورة ليست المثال الوحيد الموجود حالياً في أرض الواقع، كما أن هذه الصورة لا تمثل حالة فردية استثنائية قد وقعت في إنجلترا، وإنما هي مثال لعشرات الآلاف من «المخلوقات الغريبة»، ومن الحالات المشوهة والمعوقة للجسد البشري التي شاهدناها في أكثر من 46 دولة حول العالم، مثل دول القارة الأوروبية، وأستراليا، وبعض دول أمريكا الجنوبية. فعلى سبيل المثال، هناك ألبوم خاص من الصور الفوتوغرافية لأفراد عائلة بريطانية أخرى، وتشاهد في هذا الألبوم الخاص صور أفراد هذه العائلة المنكوبة منذ ولادتهم وحتى يومنا هذا، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر مصيره وقَدَره، وهذه العائلة التي تعيش حالياً في بريطانيا في مدينة (Cheltenham) أُطلق عليها اسم غريب، ولقب غير مألوف، وهو عائلة «الثاليدوميد»، وهو يرمز إلى العائلة المـُشوهة والمعوقة خَلْقياً وجسدياً منذ ولادتها، والتي تعاني عشرات السنين من هذه التشوهات الخَلْقية الغريبة والنادرة في عالم البشر.
فقصة هذا الرجل وعشرات الآلاف من «المخلوقات الغريبة» التي وُلدت في الستينيات من القرن المنصرم بسيطة جداً، ولكنها كبيرة وعظيمة في مضمونها وتداعياتها العقلية والجسدية والنفسية ليست فقط على الذين وُلدوا مشوهين بهذه الحالات الغامضة والنادرة، وإنما على باقي أفراد أسرته الصغيرة والكبيرة والمجتمع برمته الذي وقف حائراً وخائفاً من ولادة هذا العدد المهول في كثير من دول العالم من الأجنة المشوهة كلياً، كما أنها قصة عقيمة نستخلص منها الكثير من العبر والعظات والفوائد الجمة.
فالفصل الأول من هذه القصة المأساوية تبدأ عندما كانت والدة «كيفن دونيلون» قبل أكثر من ستة عقود تعاني من آلام ومعاناة تصيب معظم النساء الحوامل بعد الاستيقاظ صباحاً من النوم، وهي الأرق والصداع المزمن والقيء الشديد عند الصباح، وفي نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم كان الدواء السحري الأعجوبة الذي يصفه الأطباء دائماً في معظم دول العالم للعلاج الشافي من هذه الأعراض المرضية لجميع النساء الحوامل هو كبسولة الثاليدوميد البيضاء(Thalidomide)( (Diethylstilboestrol) التي كانت تُباع تحت مسمى تجاري هو ديستافال(Distaval)، وتُنتجها شركة ألمانية متخصصة في صناعة العقاقير هي مجموعة جرونينثال(Grünenthal Group)، حيث تمت صناعتها عام 1953، وتسويقها حول العالم عام 1958، واستُخدمت مدة قرابة ثلاثين عاماً.
والفصل الثاني ينطلق من انكشاف ظاهرة غامضة ونادرة لم يعرفها الأطباء من قبل وهي زيادة مطردة في الإجهاض من جهة، وولادة أجنة غريبة ومعوقة ومشوهة من جهة أخرى، وبعد سنوات من متابعة هذه الحالات ومراقبتها في بعض دول العالم، أكد الأطباء أن السبب هو تناول المرأة الحامل لدواء الثاليدوميد، أي كان هذا الدواء غير «مستدام»، فهو يبني من جهة، ولكن يهدم من جهة أخرى، ويعالج المرأة من جهة، ولكن يسبب لها مشكلة مرضية مزمنة فتضع جنيناً من المخلوقات الغريبة من جهة أخرى. ثم بعد سنوات أخرى من الدراسات الميدانية تأكد المجتمع الطبي أن المتهم في ولادة هذه المخلوقات الغريبة هو هذا الدواء السحري الأعجوبة!
ولكن بالرغم من الأدلة الدامغة التي قدَّمها الأطباء عن الآثار الجانبية المهلكة لهذا الدواء، إلا أن الشركة المصنعة للدواء في ألمانيا لم تعترف بداية بهذه العلاقة السببية واستمرت على غيها وتدافع عن دوائها عدة سنوات، حتى رُفعت ضدها الآلاف من القضايا في المحاكم في عدة دول. وبعد مرور أكثر من ستين عاماً على النكبة البشرية اعترف الرئيس التنفيذي للشركة في سبتمبر 2012، وأعرب عن أسفه لوقوع هذه المأساة البشرية العضوية والنفسية، وتخليداً لذكرى هذا المرض أَسدل الستار عن تمثال فريد من نوعه مصنوعاً من البرونز موجود في مدينة ستولبرج (Stolberg) غرب ألمانيا، ومثل هذا التمثال لا تُشاهده في أية دولةٍ أخرى في العالم، فهو يُجسم منظر طفلٍ صغيرٍ لا أطراف له، أي ليست له أيدٍ أو أرجل وأُطلق عليه بالطفل المريض(the sick child).
ولكن السؤال الأخير الذي عجز العلماء عن الإجابة عليه لأكثر من ستين عاماً هو آلية تأثير الدواء على الجنين في بطن أمه، وكيفية ولادة أجنة غريبة ومشوهة، وقد جاءت الإجابة في البحث المنشور في مارس 2021 في مجلة(eLife)، حيث اكتشف الباحثون من معهد دانا_فاربر للسرطان(Dana-Farber Cancer Institute) آلية هذا الدواء في إحداث التشوهات للجنين. فهذا الدواء يتعارض مع عمل البروتين الرئيس الموجود في الخلية والمعني بنمو الجنين، فيعمل على تحفيز تحلل البروتين في الخلايا ويؤثر في الجينات داخل الخلية، وبالتحديد(SALL4)، وتحلل هذا الجين وحدوث طفرات له يلغي نمو الأطراف والأعضاء الأخرى من جسم الجنين كالأذن والعين وغيرهما، فينجم عن هذه العملية الطفرية في البروتين أو الجينات في ولادة الأجنة المشوهة، أو الإصابة بأمراض القلب، أو الإجهاض.
ونهاية القول المفيد في هذه الطامة الكبرى هو أن على الإنسان ألا يستعجل في إدخال أية مادة كيميائية، أو حيوية، أو فيزيائية إلى الأسواق وإلى بيئتنا، سواء أكانت أدوية وعقاقير، أو منتجات استهلاكية، أو غيرها قبل إجراء الدراسات الكاملة والشاملة على هذه المواد من حيث تأثيرها في الإنسان، ومصيرها عند دخولها في مكونات بيئتنا، حتى نتأكد من سلامتها علينا وعلى عناصر بيئتنا الحية وغير الحية ونتجنب وقوع مثل هذه النكبات البشرية.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك