«يا للهول.. إنهم يريدون أن يعتقلوني، لا أكاد أصدق أن هذا يحدث في أمريكا التي كانت ذات يوم عظيمة». كان ذلك تصريحا مثيرا بنصه ودلالاته.
الرئيس السابق «دونالد ترامب» يعتقد حقا أنه فوق القانون، وأن التفكير في اتخاذ إجراءات قضائية بحقه «مؤامرة» وفعل «سوريالي» غير قابل للتصديق.
بحسب استطلاعات الرأي العام فإن أغلبية الجمهوريين لديها الرأي نفسه أن هناك «مؤامرة» يقف خلفها الرئيس الحالي «جو بايدن» لمنع «ترامب» من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة (2024).
على نحو لافت تداخلت إجراءات العدالة وأعمال السيرك في أول محاكمة لرئيس أمريكي سابق بتهم بعضها جنائية. أمعن المتهم في التجاوز اللفظي والأخلاقي بحق قضاته، فالمدعي العام «يساري راديكالي وفاسد» والقاضي «منحاز ضدي ويكرهني».
التسييس الزائد ساد أجواء المحاكمة والتصرفات ناقضت اعتبارات العدالة.
رغم حرص البيت الأبيض على تأكيد أن «بايدن» ليس مهتما بالمحاكمة وما يجري فيها إلا في حدود المتابعة الاعتيادية للأخبار فـ«وقته للشعب الأمريكي وحده» لم يكن أحد مستعدا أن يصدق ذلك الادعاء الرسمي.
أجواء المحاكمة أهم من إجراءاتها. تأثيراتها طاغية على السباق الانتخابي الذي يوشك أن ينطلق، ورسائلها متداخلة في صورة الولايات المتحدة بعالم متغير لم تتضح كامل حقائقه الجديدة انتظارا لما تسفر عنه الحرب الأوكرانية المحتدمة.
أمريكا المضطربة تكاد ألا تعرف مواقع أقدامها إلى المستقبل. «ترامب» يرى أن «دولتنا تتجه إلى الجحيم»، كأن محاكمته دليل على الفشل، دون أي دفاع مقنع عن الاتهامات الموجهة إليه وأغلبها شائن بأي معنى أخلاقي أو سياسي.
القضية لا تلخصها الرشى التي دفعها لـ«شراء الصمت» على فضائح مغامرات ارتكبها، ولا التزوير في سجلات رسمية لإخفاء معالم الجريمة حتى لا تؤثر في حملته الانتخابية الرئاسية (2016). صلاحيته للرئاسة كانت صلب واقعة «شراء الصمت»، وهي موضوع محاكمته الآن دون كلام كثير عن العدالة الأمريكية.
«أواجه حملات اضطهاد ضدي»، كان ذلك جوهر استراتيجية «ترامب» للدفاع عن نفسه وبناء تعاطف معه باعتباره ضحية. وفيما هو ظاهر أثبتت فاعلية كبيرة في دوائر مؤيديه.
من هذه الزاوية بدت المحاكمة مباراة سياسية في الحشد والتعبئة وإقناع الرأي العام أخذ فيها «ترامب» زمام المبادرة. إنها مباراة سياسية لا قانونية.
المثير للالتفات أن الاتهامات التي يحاكم عليها أمام محكمة في نيويورك أقل أهمية وخطورة بما لا يقاس من اتهامات أخرى قيد استكمال إجراءاتها مثل التحريض على اقتحام مبنى «الكابيتول» لمنع التصديق على انتخاب «بايدن» رئيسا، والتدخل لتغيير نتيجة الانتخابات الرئاسية في جورجيا والأخطر حيازة وثائق سرية خطيرة ليس من حقه الاحتفاظ بها في قصر «مارا لاجو»، الذي يمتلكه بولاية فلوريدا.
في أجواء الاصطفاف الحزبي يصعب أن تكون هناك عدالة ذات صدقية. لا الجمهوريين سوف يقبلون إدانة «ترامب» خشية أن تؤثر في حظوظهم الانتخابية، ولا الديمقراطيين تعنيهم العدالة إلا بقدر ما توفره من فرص لإزاحته من المشهد كله.
ذلك الانقسام السياسي الحاد أفضى سابقا إلى إجهاض إجراءات عزله بفارق أصوات معدودة في مجلس الشيوخ. بحسابات الالتزام الحزبي لا باعتبارات الأمن القومي وصدقية الاتهامات ومدى خطورتها أفلت «ترامب» من العزل.. ولا يستبعد أن يفلت مرة أخرى من الحبس بصفقة ما في الظلام.
إثر البدء في محاكمة «ترامب» لوح الجمهوريون أنهم سوف يعملون على محاكمة «بايدن» بتهم سوء استخدام السلطة من موقعه نائبا للرئيس «باراك أوباما» بالتورط في قضايا فساد منسوبة إلى نجله «هانتر» يجري التحقيق حاليا في مخالفاتها داخل الكونجرس.
مرة أخرى.. لا أحد فوق القانون لكن وفق الحسابات والمشاحنات السياسية لا أصول العدالة وقواعدها. في محاكمة «ترامب» غلبت عناصر الإثارة السياسية الأدلة والحجج والقرائن.
بأمر قضائي لم تبث الجلسة الأولى على شاشات التلفزيون خشية أية تفلتات أمنية من أنصاره.
الانقسام الأمريكي الحاد يطرح بالضرورة سؤال: إلى أي حد تؤثر محاكمة الرئيس السابق الأكثر إثارة للجدل على صورة الولايات المتحدة في عالمها؟
يفترض نظريا أن تفضي إلى تحسين في الصورة، باعتبارها بلدا لا أحد فيه فوق القانون، غير أن أعمال السيرك التي شابت المحاكمة تدعو إلى الاعتقاد أن ثمة مشكلة جوهرية في مؤسسة العدالة وصدقيتها واحترامها، ومشكلة حقيقية أخرى في بنية المؤسستين التشريعية والتنفيذية. بصورة ما يلخص الرئيسان المتعاقبان «ترامب» الجمهوري و«بايدن» الديمقراطي عمق الأزمة الأمريكية.
الأول، جاء من خارج المؤسسة، رجل أعمال طموح ومتفلت، يتبنى خطابا شعبويا، لا خبرة له تقريبا بما يحدث في العالم، أدار الدولة بالطريقة التي يدير بها شركاته، رفع شعار «أمريكا أولا»، حاول بقدر ما يستطيع تفكيك الاتحاد الأوروبي، ولم يكن مقتنعا أن حلف «الناتو» يستحق ما تتكفل به الولايات المتحدة من تكاليف مالية، فـ«الأمن مقابل الدفع».
كانت ذروة مأساة فترته الرئاسية الطريقة العشوائية، التي أدار بها أزمة الجائحة وأفضت إلى ارتفاع أعداد الضحايا بصورة هزت مكانته وجعلته موضعا للسخرية بأنحاء العالم.
والثاني، جاء من داخل المؤسسة، تمرس في العمل التشريعي سنوات طويلة، عمل نائبا للرئيس فترتين، بدت صورته باهتة بالقياس إلى شخصية «أوباما»، لم يكن مقنعا بصلاحيته للرئاسة، لكنه كسب معركتها الانتخابية كنوع من التصويت العقابي لـ«ترامب» وسياساته التي لخصت أسوأ ما في السياسة الأمريكية بقضايا اللاجئين والمهاجرين والأقليات الملونة والصدامات المتكررة مع الصحافة والإعلام.
لم يكن ممكنا لرجل بمواصفات «بايدن» أن يربح الانتخابات الرئاسية أمام رجل آخر غير «ترامب». في تجربته الرئاسية اتخذ منحى مغايرا لتأكيد القوة الأمريكية وأنها قد عادت.
وجد في الأزمة الأوكرانية فرصة سانحة لإعادة بناء التحالف الغربي وضخ دماء الحياة في «الناتو» مجددا وضم دول جديدة إليه.
يتصور أن بوسعه استعادة صفة الدولة العظمى المنفردة إذا ما خرج منتصرا من الحرب الأوكرانية، وهو افتراض يصعب اعتماده، لكنه ماثل بصورة أو أخرى في السجال الأمريكي الداخلي. قصة الرئيسين بكل تناقضاتها توحي أننا أمام إمبراطورية غاربة.
لم يعد ذلك استنتاجا بالهوى من كتاب ومفكرين في العالم الثالث بقدر ما صارت مقولة متداولة في الولايات المتحدة نفسها وجدت من يتبناها من كبار صحفييها مثل «سيمور هيرش»، الذي بنى صيته على تحقيقاته الاستقصائية المدققة.
بنص عبارته الموحية: «أمريكا لم تعد دولة عظمى».. هذه هي الحقيقة الكامنة في قصة ما يجري الآن.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك