كانت -ولا تزال- قضية الحفاظ على أمن الطاقة عموما وفي منطقة الخليج العربي على نحو خاص أحد أبرز اهتمامات القوى الكبرى والمنظمات الدفاعية كحلف شمال الأطلسي «الناتو»، وعلى الرغم من أن كل استراتيجيات الأمن القومي الأمريكية على مدى تاريخها لم تخل من الحديث عن تلك القضية باعتبارها إحدى قضايا الأمن القومي الأمريكي بغض النظر عن كون الرئيس الذي يأتي إلى سدة الحكم من الجمهوريين أم من الديمقراطيين، فإن القضية كانت مثار اهتمام حلف الناتو، صحيح أن الحلف لم يتدخل عسكرياً كمنظمة بسبب أمن الطاقة سوى خلال التدخل العسكري في ليبيا عام 2011 للإطاحة بالنظام الليبي آنذاك حيث لامست أسعار النفط 120 دولارا للبرميل ما كان له آثار سلبية على اقتصادات الدول الأوروبية عموماً، لكن بعض أعضاء الحلف شاركوا في عملية الإرادة الجادة التي أعلن الرئيس ريجان عن تأسيسها خلال الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات لحماية ناقلات النفط من الاعتداءات من جانب طرفي الحرب، بالإضافة إلى مشاركة بعض أعضاء الحلف في حرب تحرير الكويت عام 1991.
ومع أهمية ما سبق قد لوحظ أن المفهوم الاستراتيجي الثامن للحلف الصادر عام 2022 قد خلا من الحديث عن أمن الطاقة، وهو ميثاق أمني رفيع المستوى يصدر كل عشر سنوات متضمناً مراجعة لطبيعة التهديدات وتحديد آليات مواجهتها، ومن بين 19 قضية تم تحديدها من بينها التهديدات السيبرانية وتداعيات التكنولوجيا الحديثة على أمن دول الحلف والإرهاب في إفريقيا والتغير المناخي لم يكن هناك حديث مفصل عن أمن الطاقة سوى الإشارة بشكل سريع إلى تهديد الجماعات دون الدول لأمن الحلف من خلال «التلاعب بإمدادات الطاقة»، ذلك الأمر الذي استرعى انتباهي لأربعة أسباب الأول: إنه إذا ما سلمنا جدلاً بأن ذلك المفهوم الاستراتيجي لا يعكس فقط مصالح الحلفاء بل الشركاء في الوقت ذاته ففي مفهوم عام 2010 بالرغم من أنه لم تكن هناك تهديدات وشيكة لأمن الطاقة في الخليج العربي فإنه كانت هناك فقرات مطولة عن رؤية الحلف للتهديدات وآليات مواجهتها، في حين أن عامي 2019 و2021 قد شهدا عدة اعتداءات على ناقلات النفط في الخليج العربي بل أيضاً المنشآت النفطية في شركة أرامكو بما يعني تهديد منشآت النفط وسبل نقله ولكن لم يكن هناك رؤية للحلف لتلك التهديدات، والثاني: إن الصراع المحتدم في شرق المتوسط والذي نتج عن عوامل عديدة بعضها تاريخي والآخر ذي صلة بحقوق بحرية قانونية ولكن في الجانب الأكبر منه حول الطاقة بل إن ثمة خلاف بين دولتين من دول الحلف وهما تركيا واليونان، والثالث: إنه مع تعدد التداعيات التي رتبتها الأزمة الأوكرانية على أمن دول الاتحاد الأوروبي والتي لدى 22 دولة منها عضوية في حلف الناتو في الوقت ذاته، كانت الطاقة أبرز تلك التحديات وظل التساؤل هو كيفية تأمين احتياجات الدول الأوروبية من الطاقة لتعويض الاستيراد من روسيا، والرابع: إنه خلال قمة حلف الناتو في يونيو عام 2022 بمدريد تمت مناقشة قضية أمن الطاقة ولكن ضمن سياق التغير المناخي» ومن بين ما جاء في تلك القمة «ستواصل الولايات المتحدة أيضاً العمل مع الحلفاء على تعزيز أفضل الممارسات لخفض الطلب على الطاقة في المشتريات العسكرية، وذلك كجزء من تنفيذ خطة العمل بشأن الأمن وتغير المناخ الجديدة للحلف وتقليل الاعتماد على الطاقة».
فهل يعني ما سبق تراجع اهتمام حلف الناتو بتلك القضية لصالح قضايا أخرى منها محاربة الإرهاب في الساحل؟ ففي يوليو 2022 قال خوسيه مانويل ألباريز وزير الخارجية الإسباني «إن هناك احتمالا لتدخل حلف الناتو عسكرياً في مالي على خلفية تصاعد خطر المهاجرين غير الشرعيين الذين ينحدرون من منطقة الساحل الإفريقي هرباً من حدة النشاط الإرهابي»، كما أن نص المفهوم الاستراتيجي الثامن على هدف مكافحة الإرهاب في الساحل الإفريقي يعكس طبيعة أولويات الحلف خلال السنوات المقبلة.
في تقديري أن سياسات حلف الناتو يمكن تفسيرها من ثلاث زوايا الأولى: سياسات الحلف لا تنفصل عن سياسات دوله الكبرى، بمعنى آخر أنه في الوقت الذي تقلص فيه الوجود الأمريكي في العراق والفرنسي في منطقة الساحل كان الحضور الأطلسي واضحاً ففي مطلع عام 2021 أعلن الأمين العام للحلف زيادة قوات الناتو في العراق ثمانية أضعاف من 500 إلى 8 آلاف فرد، وفي الوقت الذي تقلص فيه الوجود الأوروبي في الساحل فقد أصبحت تلك المنطقة من أولويات الحلف، والثانية: سياسة الحلف هي تأسيس المزيد من الشراكات في مناطق مختلفة من العالم وفي ظل إدراك الحلف تطور مبادرة إسطنبول مع دول الخليج بما يكفي ومن ذلك افتتاح المركز الإقليمي للحلف في الكويت عام 2017 والذي قدم خلال ست سنوات العديد من الدورات التدريبية لدول الخليج، ففي تقرير الحلف السنوي لعام 2021 أشار إلى أن المركز الإقليمي استضاف منذ افتتاحه عام 2017 أكثر من 1600 مشارك من دول الخليج ومئات الخبراء من بلدان الحلف ضمن دورات تدريبية شملت مجالات مكافحة الإرهاب والاتصالات الاستراتيجية والأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة والتدريب على الأجهزة المتفجرة المرتجلة وإدارة الذخائر وإدارة الأزمات والتأهب المدني، والثالثة: هي أن سياسات الناتو تصدر بإجماع الدول الأعضاء وتصدر استجابة لمواجهة التهديدات الأمنية التي يراها الأعضاء تمثل أولوية ملحة ولذا لم يكن مستغرباً أن يكون تأكيد قيم الحلف والدفاع الجماعي في مقدمة أولويات الحلف الأمنية ضمن المفهوم الاستراتيجي الثامن للحلف والإشارة إلى أن الحرب في أوكرانيا تمثل «زعزعة للسلام في أوروبا وتهديد البيئة الأمنية على نحو خطير».
وعلى الرغم من عدم تخصيص الناتو فقرات مطولة لقضية أمن الطاقة عموماً ضمن المفهوم الاستراتيجي الثامن فإن ذلك لا يعني أنها ليست ذات أهمية للحلف فهي لم تكن ضمن قضايا التعاون بين الناتو ودول الخليج العربي في مبادرة إستانبول عام 2004 ولكنها استحوذت على جل اهتمام الحلف خلال السنوات اللاحقة، وأتصور أن الحلف بإمكانه الإسهام في تلك القضية بالنسبة إلى شركائه من دول الخليج من ناحيتين الأولى: أن يكون التدريب على حماية المنشآت النفطية ضمن استراتيجيات بناء القدرات التي ينتهجها الحلف تجاه الشركاء وخاصة في ظل ما تتطلبه تلك الحماية من توظيف التقنيات التكنولوجية الحديثة، والثانية: انطلاقاً من وجود خبرات تراكمية لدى حلف الناتو بشأن التعامل مع الأزمات الأمنية التي كانت الطاقة حاضرة فيها وبقوة فإن التدريب على إدارة أزمات الطاقة يظل متطلبا رئيسيا لشركاء الحلف أكثر من أي وقت مضى.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك