لعنات الحروب التي تخوضها أمريكا ضد الشعوب المستضعفة تنزل عليها فتفتك بها بعد أن تضع الحرب أوزارها على شكل أمراض مستعصية وغامضة لم يعرفها الأطباء من قبل، ولا يجدون لها تفسيرا علميا منهجيا موثوقا، فكل مرضٍ فريد من نوعه يصيب عشرات الآلاف من الجنود الذين شاركوا في غزو الشعوب الأخرى والاعتداء عليها يُطلق عليه باسم تلك الدولة التي غزوها، مثل فيتنام، وأفغانستان، والعراق.
ولذلك نجد أن تداعيات وتأثيرات ظلم أمريكا للشعوب الأخرى بغزوها واحتلالها وإذلالها تنعكس مباشرة على جنودها نفسيا وعضويا وعقليا وعلى أفراد أسرهم والمجتمع الذي يعيشون فيه، فتظهر عليهم هذه المعاناة الأليمة القاسية، والأعراض المرضية المعقدة والمستمرة سنوات طويلة بعد انتهاء الحرب. وهذه السنوات العجاف المظلمة التي يعيشها الجنود تكون أشد وطأة وتنكيلاً بكامل صحتهم من معاناتهم أثناء فترة عدوانهم على الشعوب، فالمعاناة تكون مزدوجة وطويلة، فهم أولاً يقاسون من أهوال المرض نفسه وافتراسه تدريجياً لأعضاء أجسادهم، وثانياً وفي الوقت نفسه يعانون سنوات طويلة عصيبة من تجاهل الحكومة الأمريكية وإغفالها لمرضهم وآلامهم وعدم الاعتراف بالمرض نفسه الذي يعانون منه كمرض عضوي مستقل في حد ذاته، فكان لا بد لهم من الخوض في حرب داخلية مع الحكومة الأمريكية لاسترداد حقوقهم في علاج معاناتهم.
وهناك عدة أمثلة عن الأمراض الغامضة التي أصابت الجنود الأمريكيين بعد أن رجعوا إلى ثكناتهم في دولهم، وسأقدم لكم مثالين فقط. أما الأول فهو المرض العصيب المرتبط بغزو الولايات المتحدة الأمريكية لفيتنام الذي بدأ في الأول من نوفمبر 1955 واستمر مدة 20 عاماً، أي أن العدوان انتهى وتوقف كلياً في 30 أبريل 1975. ولمعرفة هول هذه الحرب على المجتمع الأمريكي برمته، وتجذر تداعياتها عليهم جميعاً، فستجد أن هناك أكثر من 30 ألف كتاب صدر حول فيتنام، يشرح كل الجوانب المتعلقة بهذه الحرب الغاشمة، كما أن هناك المئات من أفلام هوليود والأفلام الوثائقية التي يعرض كل منها جانبا من هذه الحرب ويتناول بعداً خفيا ومجهولا على الشعب الأمريكي، وعلاوة على ذلك فقد تم نشر الآلاف من الأبحاث والدراسات العلمية التي تُركز على سبر غور الحالة المرضية الغريبة التي نزلت على الجنود، فتحاول تفسير الأعراض المرضية المعقدة التي يتعرضون لها يوميا، وأُطلق عليها مرض فيتنام، أو مرض العميل البرتقالي. وكان آخر هذه الإصدارات كتابا نُشر تزامناً مع خروج آخر جندي من فيتنام في 29 مارس 1973، أي في 29 مارس 2023 بعد مرور خمسين عاماً على الحرب.
هذا الكتاب الجديد قام بتأليفه إعلامي عايش هذه الحرب وذاق مرارتها وشاهد آلامها، واسمه جورج بلاك(George Black)، ونُشر تحت عنوان: «الحساب الطويل: قصة الحرب والسلام والخلاص» ( The Long Reckoning: A Story of War, Peace, and Redemption in Vietnam). وهذا الكتاب يركز على عدة أبعاد للحرب منها المحاسبة الشعبية المستدامة للفوضى التي خلقتها أمريكا في الستينيات من القرن المنصرم في فيتنام. ومن هذه الأبعاد أيضاً استخدام الجيش الأمريكي في عملية خاصة صرح بها الرئيس جون كنيدي في 1961 واستمرت عدة سنوات وعُرفت بـ«عملية رانش هاند» (Operation Ranch Hand)، حيث قامت أمريكا برش الملايين من الجالونات براً وبحراً وجواً من مجموعة من مبيدات الأعشاب من أخطرها وأكثرها سمية هو «العميل البرتقالي» (Agent Orange). وكان الهدف من هذه العملية الخبيثة هو تدمير الغطاء النباتي الذي يحمي المقاومين من فيتنام الجنوبية من القصف الجوي المدمر، إضافة إلى تدمير الموارد والمصادر الغذائية النباتية لهؤلاء المستضعفين الذين يعيشون في القرى البعيدة ويدافعون عن أرضهم ووطنهم. ولكن ما لم يعرفه الجيش الأمريكي أن هذا المبيد الذي تعرض له في الوقت نفسه عدد كبير من الجنود الأمريكيين يحتوي على أشد مركب كيميائي سام أنتجه الإنسان وهو «الديكسين»، حيث قال أحد علماء جامعة هارفرد «ماثيو مسلسون» (Matthew Meselson) واصفاً هذه المادة: «حتى العبقري الشرير لا يستطيع إنتاج سم له خصائص شريرة أكثر من هذا السم».
ولذلك كما أن هذا السم العقيم أحدث ضرراً وتدميراً شاملاً وأهلك الحرث والنسل وكل من يعيش في تلك الغابات في فيتنام، فقد انتقل هذا السم بسرية تامة ومن دون أن يعلم أحد إلى أجسام الجنود، سواء الذين كانوا ينقلون ويشحنون البراميل في الشاحنات، أو الطائرات، أو السفن، أو الذين قاموا مباشرة برش المبيدات على البشر والزرع والحجر، أو الذين كانوا ينقلون مخلفات البراميل الفارغة، أو الذين قاموا بدفنها والتخلص منها في عدة دول منها فيتنام، واليابان، وغيرهما. فجميع هؤلاء الجنود الذين بلغ عددهم مئات الآلاف تعرضوا لهذا العميل البرتقالي، وسقطوا في أهوال الشعور بأعراض مرضية مُركبة ومعقدة تخفى على المجتمع الطبي، وخاضوا مع أنفسهم معارك صحية قاسية أشد من معارك الحروب، فالآلام لا تفارقهم، والصداع المزمن رفيقهم ليلاً ونهاراً، ومع مرور الوقت تعرضوا لنحو 20 نوعا من السرطان، وداء السكري من النوع الثاني، إضافة إلى ولادة أجنة معوقة ومشوهة.
وأما المرض الثاني الذي سقط فيه الجنود الأمريكيون هو المرض الناجم عن غزو العراق وأفغانستان، حيث أصيبوا بأعراضٍ مرضية نادرة، ومعاناة جسدية ونفسية مزمنة لا طاقة لهم بها وتتمثل في الصداع المزمن، وحساسية وحرقة في العينين والجهاز التنفسي، ومشكلات مزمنة في الجيوب الأنفية، والتهابات وجروح في الرئتين، إضافة إلى نوع نادر من سرطان الرئة. وبعد عقود من هذا الألم العضوي والنفسي والعقلي الثقيل والمهلك الذي تعرض له هؤلاء الجنود وأسرهم، أكد الأطباء أن هذه الأعراض الغريبة ناجمة عن تعرض الآلاف من الجنود لخليط سام ومسرطن من الملوثات التي انبعثت إلى الهواء الجوي ودخلت في أجسامهم نتيجة لحرق جميع أنواع المخلفات التي كانت تنتج عن العمليات العسكرية، والطبية، والقمامة المعروفة، إضافة إلى الأعضاء المبتورة من الجنود المصابين والمخلفات المشعة والبيولوجية. فقد كان الجنود يحرقون مخلفاتهم في «حُفر الحرق» (burn pits) فيتعرض كل من يعمل في هذه الحفر، إضافة إلى العاملين في هذه المعسكرات والقرى القريبة منها، ونُشرت عدة دراسات أكدت العلاقة بين هذه الحفر وإصابة الجنود بالأعراض المرضية الغامضة والسرطان، منها على سبيل المثال دراسة تحت عنوان: «انكشاف جديد لمرض الربو بين الجنود الذين خدموا في العراق وأفغانستان» والمنشورة في سبتمبر 2010 في مجلة «وقائع حساسية الربو» (Allergy Asthma Proceeding)، إضافة إلى الدراسة تحت عنوان: «أعراض الجهاز التنفسي التي تستلزم قياس التنفس بين الجنود المصابين في الرئة في العراق وأفغانستان»، والمنشورة في سبتمبر 2011 في مجلة «الطب المهني والبيئي» (Occupational and Environmental Medicine). وهذه الدراسات أكدت العلاقة بين هذه الأعراض المرضية التنفسية، أو حالات الربو الجديدة التي بدأت تنكشف منذ عام 2004، والتعرض للملوثات التي انطلقت من عملية حرق المخلفات الخطرة وغير الخطرة مع بعض في حفرة واحدة معرضة مباشرة للهواء الجوي.
وبشكلٍ عام فإن الحروب دائماً تكون مدمرة لكل الأطراف، فهي لا تبقي ولا تذر، ومهلكة للحرث والنسل، وتداعياتها الحزينة والمؤلمة تبقى خالدة في ذاكرة الشعوب سنواتٍ طويلة بعد انتهائها، وبصماتها الكئيبة تتجذر في مكونات البيئة على هيئة مخلفات وذخائر حربية لم تنفجر في البر والبحر، وسفن غارقة في أعماق البحار المظلمة، وهذه المخلفات الحربية مازالت باقية حتى يومنا هذا في الدول التي خاضت الحروب، مثل البيئة الأوروبية التي تعاني من بقايا الحرب العالمية الأولى والثانية، وستمكث في بيئتهم إلى أن يشاء الله.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك