من منا لا يود أن يعيش بسعادة، سواء في العمل أو في الحياة أو في أي مكان؟ ولكن هل في العمل والوظيفة سعادة؟ كيف يمكننا أن نحقق ذلك؟
تقول الأدبيات إن مفهوم السعادة الوظيفية تُعد من المفاهيم الحديثة في مجال العلوم الإدارية، إلا أنها ما أن أطلقت إلا أصبحت واسعة الانتشار في ظل اتجاه كثير من المؤسسات إلى زيادة شعور العاملين بالسعادة في مكان العمل، وذلك بهدف تعزيز الطاقة الإيجابية لديهم، ودفعهم إلى العمل بحماس، ومن ثم تحقيق تلك المؤسسات لأهدافها.
ربما كان السبب الرئيس في هذا الاتجاه – أي الرغبة في تحقيق السعادة الوظيفية للعاملين – نابعا من اعتقاد المؤسسات أن هؤلاء العاملين سيكون أداؤهم في العمل أكثر إبداعًا وتميزًا، وبالتالي ستزداد الأرباح وتتحسن الصورة الذهنية للمؤسسة، ولكن ما زلنا لم نعرف ماذا يعني مصطلح (السعادة الوظيفية).
وكالعادة في العلوم الإنسانية، وجدنا اختلافًا واضحًا بين الكتّاب والباحثين حول مفهوم السعادة الوظيفية، نظرًا إلى كونه مفهومًا سلوكيًا لا يظهر بشكل مادي، وإنما يرتبط بالحالة النفسية للعاملين. ويرى بعض الباحثين أن السعادة الوظيفية تشير إلى شعور الموظف بارتباط عاطفي قوي نحو مكان عمله، بجانب ارتباطه واندماجه عاطفيًا وفكريًا في وظيفته، وبأنه مسؤول عن تحقيق أهداف المؤسسة التي يعمل بها ونجاحها، وينبع هذا الشعور من خلال ما تطبقه المؤسسة من ممارسات وسياسات، وعلاقة الإدارة مع العاملين، فكلما اهتمت المؤسسة بسعادة العاملين، زاد حماس هؤلاء العاملين، وحرصهم على أداء وظائفهم بشكل فعال، والتزامهم وولاؤهم.
وفي تعريف آخر يرى الباحث أن السعادة الوظيفية هو شعور الموظف بالرضا والراحة في العمل، وقناعته الداخلية أن ما يقوم به من أعمال أو يحققه من إنجاز في العمل يتناسب مع أهدافه الخاصة وطموحه الوظيفي. وأن السعادة الوظيفية هي التوافق والانسجام الكامل بين الفرد ووظيفته وزملائه بشكل ينعكس على تحقيق أهدافه وإشباع طموحه الوظيفي.
عمومًا، ببساطة يمكن القول إن السعادة الوظيفية هو شعور العاملين بالرضا والإيجابية والتقدير في العمل، وارتباطهم بوظائفهم، واندماجهم في العمل، وتقوية علاقاتهم بالغير، والحرص على تحقيق الإنجازات.
وبناء على هذه المفاهيم، سعت العديد من المؤسسات لتوفير كل متطلبات تحقيق السعادة الوظيفية مثل خلق بيئة عمل إيجابية، وتقوية العلاقات بين العاملين، وسيادة السلوكيات الإيجابية في العمل. وذلك بناء على فكرة أن السعادة الوظيفية تسهم بشكل واضح في زيادة ولاء العاملين، وزيادة إنتاجيتهم، وزيادة الأرباح، وتحسين خدمة العملاء، فوفقًا لدراسة أجرتها جامعة (وارويك Warwick)، فإن اتخاذ خطوات جادّة نحو تعزيز السعادة وجودة الحياة في بيئة العمل يؤدي إلى زيادة الإنتاجيّة بنسبة تصل إلى 12%.
ولكن يبقى السؤال الأهم، كيف نحقق تلك السعادة وخاصة أنها نوع من السلوكيات والشعور وليست عملية مادية بحتة؟
وجدنا أن هناك خمسة عناصر مهمة يمكن من خلالها تحقيق السعادة الوظيفية أو على الأقل الاقتراب منها، وهي:
عناصر بيئية، وتشمل كل العناصر التي من المفروض أن تكون موجودة في بيئة العمل حتى تسهل على الموظف القيام بعمله، مثل: وجود ماء للشرب، حمامات نظيفة، إضاءة جيدة، مكاتب وطاولات نظيفة، أوراق وأقلام، وأجهزة حاسوب وما إلى ذلك.
عناصر اجتماعية، وتشمل العلاقات الإنسانية في بيئة العمل، سواء بين المسؤول والموظفين، أو بين الموظفين بعضهم البعض، مثل: الذكاء الاجتماعي والعاطفي الذي يجب أن يتمتع به الجميع، وهذا يمكن تعلمه من خلال بعض الدورات التدريبية. إدارة الصراع إذ نحن نعلم أن بيئة العمل وبوجود أعداد كبيرة من الناس وكلهم آتون من أماكن ومن بيئات مختلفة فإنه من الطبيعي أن يحدث صراع واختلاف بين الأمزجة، لذلك فإن على القياديين أن يتعلموا كيفية إدارة الصراع إن حدث وهذا أمر مهم.
ومن الجدير بالذكر إن جهدا كبيرا في توفير مثل هذه الأجواء تقع على عاتق إدارة العلاقات العامة والمسؤول الإداري القائد حيث إنه يجب التفكير بصورة كبيرة في الاستفادة من المناسبات الاجتماعية والأعياد وحتى أعياد الميلاد وموضوع موظف الشهر أو ما إلى ذلك، كل هذه المظاهر تقرب بين الموظفين وتسهم بصورة كبيرة في إذابة الحواجز حتى وإن كانت سميكة. وعند توفير مثل هذه الأجواء يشعر الإنسان أن حضوره للعمل بصورة يومية لا يُعد عبئا وإنما متعة.
عناصر نفسية، هنا يجب أن يسأل المسؤول الإداري القائد نفسه، ترى ماذا يريد الموظف لنفسه؟ ثم يضع أمامه ورقة وقلم ويكتب، فإن عجز عن الإجابة، فإنه يمكن أن يعيد صياغة السؤال بطريقة أخرى، ماذا يريد هو؟ إذ إنه هو نفسه موظف. الموظف يريد: التحفيز، العدالة والمساواة بينه وبين بقية الموظفين، يريد التقدير والاحترام، يريد من يقوم بتطوير ذاته ومهاراته من خلال التدريب والتعليم، يريد أن يعيش في بيئة ذات طاقة إيجابية، ولا يريد التنمر والتهميش، إذ وجدنا أن العديد من المسؤولين من السهل عليه أن يقوم بتهميش الموظف الذي يقول فكرة ويناقش وربما يجد أن ما يفعله المسؤول – ربما – يكون خاطئًا. اليوم في المؤسسات كم موظف مهمش! كم موظف لا يحصل على ترقية في الراتب أو في الدرجة، ويبقى في مكانه وفي درجته سنوات طويلة!، فقط لأنه من موظفي الظل، وهؤلاء يخجلون بالمطالبة بحقوقهم أو التحدث مع المسؤول عن الترقيات المالية أو توفير ذلك، وينتظرون في موقعهم حتى يلتفت إليهم المسؤول ذات يوم، فهل نعرف بعض الأفراد مثل هؤلاء؟
عناصر إدارية، وعندما نتحدث عن العناصر الإدارية فإننا نوجه حديثنا بصورة أساسية إلى الإدارة العليا في المؤسسة، إذ إنها هي المتحكمة وخاصة في ظل الهيكل التنظيمي العمودي، لذلك فإن على هذه المؤسسات أن تتمتع باستراتيجية عمل أي أن تتمتع برؤية وأهداف وخطة عمل متكاملة، ليس ذلك فحسب وإنما من الأفضل دائمًا أن تكون هذه الاستراتيجية قد وضعت بالتعاون مع أكبر قطاع من الموظفين والإدارات حتى يشعر الجميع أنه هو الذي ساهم في وضع تلك الاستراتيجية لذلك نجده يهتم في تنفيذها، على الإدارة المسؤولة أن تهتم بترسيخ ثقافة العمل بروح الفريق الواحد ففي هذه المنظومة تقل الأخطاء وتزيد الإنتاجية، وفي ظل هذه المنظومة نجد أنه ينصب الاهتمام على التفكير الإبداعي والابتكاري الجماعي، وهذا يسهم كثيرًا وبصورة منقطعة النظير في تطوير الأعمال. وفي حالة صعوبة التطوير الوظيفي والمهني العمودي يمكن اللجوء إلى التطوير الوظيفي والمهني الأفقي، إذ وجدنا أن هذه الطريقة تقلل الكثير من الأعباء والأخطاء التي تصاحب العمل والتحفيز وما إلى ذلك من أمور متعلقة بالعناصر النفسية. وربما هناك بعض القضايا الإدارية المهمة التي يجب إعادة التفكير فيها وخاصة في ظل إدخال الذكاء الاصطناعي في تنفيذ الأعمال مثل موضوع ساعات العمل المرنة، التقليل من ضغوط العمل، الثقة بالموظفين، والهندسة الإدارية (الهندرة)، بالإضافة إلى ما يعرف اليوم بالذكاء الإداري، الذي يوازن ما بين الجوانب الإنسانية والجوانب المهنية فلا يجب أن يطغى جانب على آخر وإنما من المهم التوازن الدقيق في بيئة العمل، وهذا موضوع تحدثنا فيه سابقًا.
عنصر الموظف، كل هذه الأمور التي تحدثنا عنها هي من أجل زرع جودة من السعادة الوظيفية، ولكن لمن؟ الإجابة واضحة: للموظف، ولكن ما دور الموظف من كل هذا؟ هل يجلس الموظف من غير عمل ويطالب بتوفير السعادة الوظيفية؟ لا أعتقد أن الإجابة تكون بـ(نعم)، وذلك بسبب أن الموظف هو العنصر الأساسي في كل هذه المنظومة، سواء كان موظفا يعمل في المكاتب الأمامية أو هو المسؤول الأول عن المؤسسة، فالكل موظف.
هذا الموظف يقع على كاهله كل شيء، فهو الذي يستقبل العملاء والمراجعين، لذلك يجب أن يتمتع بنوع من الذكاء الاجتماعي للتعامل مع كل هذه الأمزجة،
الموظف يتعامل مع زملاء العمل، لذلك عليه أن يعرف كيف يتعامل معهم،
الموظف يقبص الفلوس والأموال، لذلك يجب أن يكون أمينا،
الموظف يتعامل مع أسرار العملاء والمراجعين لذلك فإنه يجب ألا ينقل أسرارهم إلى الخارج وينشرها بين الناس، الموظف يجب أن يلبس الملابس التي تليق بالعمل، الموظف يجب أن يحترم المسؤول وخاصة أمام العملاء والمراجعين، الموظف يجب أن يتقن الابتسامة مع الجميع.
وهناك الكثير من الأمور التي يجب أن يتقنها الموظف – أيًا كان منصبه – فلا يعتقد أنه من يتبوأ منصبًا كبيرا أصبح بعيدًا من المسؤولية، بل على العكس، فكلما ارتفع في منصبه تكالبت عليها المسؤوليات والمهام، لذلك فليفكر في هذه المقولة: «في اللحظة التي قبلت فيها أن تكون مسؤولاً فقدت حقك في التماس الأعذار، فإما أن تكون المسؤول بالفعل أو غير مسؤول».
فعندما يشعر العاملون بالسعادة الوظيفية؛ فإنهم يمتلكون الكثير من الخصائص والاتجاهات الإيجابية في العمل، والتي تميزهم عن غيرهم ممن لا يشعرون بتلك السعادة. وتشمل أهم تلك الخصائص نشاط العاملين وحيويتهم، وتفكيرهم في حاضرهم من دون الانشغال بالماضي أو القلق من المستقبل، بجانب التفاؤل والأمل في المستقبل، وسعيهم المستمر إلى بناء علاقات قوية مع زملائهم في العمل، وسيطرتهم وتجنبهم للمشاعر والاتجاهات السلبية في العمل. وتشمل كذلك إدارة الذات، والتعاطف مع زملائهم في العمل، والإقبال على العمل برغبة، وإنجازهم عملهم، وتقديرهم وفخرهم بعملهم، وعدم القيام بأعمال دون تخطيطها وتنظيمها بشكل مسبق، وأخيرًا الاستقرار النفسي.
والعاملون الذين يشعرون بالسعادة الإيجابية يتسمون بالرضا والاندماج الوظيفي، والاستقلالية، ومقاومة ضغوط العمل، وسعيهم إلى التطور المهني والشخصي، وزيادة فاعليتهم وكفاءتهم الوظيفية، بجانب قدرتهم على بناء علاقات مع الآخرين بسهولة.
أليس ذلك ما نريده جميعًا؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك