يقول الحق سبحانه وتعالى وهو يؤسس لأسلوب الدعوة، ويضع اللبنات الأولى في بنائها المبارك: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل / 125.
هذه الآية الجليلة ترسم لنا معالم الطريق إلى الله تعالى، وتيسر لنا سبل الوصول إليه سبحانه، فالدعوة إلى الإسلام ينبغي أن تتخير من الأساليب أكثرها تأثيرًا في الناس فلا يكفي أن يكون كلام الداعية حسنًا، بل لابد من أن يكون لينًا لأنه ليس كل قول حسن لينا، ولكن كل قولٍ لين حسن، وهذا ما أوصى به الله سبحانه وتعالى نبيه موسى وأخاه هارون حين أرسلهما إلى فرعون الطاغية، قال سبحانه: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى (44)) سورة طه.
وقد نتساءل: ما الفائدة التي نجنيها من إرسال موسى وهارون إلى فرعون وقد طغى، ولا أمل من هدايته؟ والإجابة عن هذا التساؤل هو: إقامة الحجة على فرعون وأمثاله حتى لا يأتون يوم القيامة ويتعللون بأن ما جاءهم من نذير! كما فعل ذلك قوم نبي الله نوح عليه السلام رغم أنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، ولَم يدخر وسيلة من وسائل الدعوة إلا ودعا بها، ورغم ذلك ما آمن به إلا قليل، وها هو الحق سبحانه وتعالى يجيب على هذا التساؤل الذين شغلنا، يقول سبحانه وتعالى: (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) آل عمران / 164.
إذًا، فعلى الداعية ألا ييأس، وأن يحتسب أجره على الله تعالى، ويعلم أن الغاية من جهاده الدعوى ليس إدخال الناس في الإسلام، فأمة الإسلام -بحمد الله تعال وبفضله- كثيرة تزيد على المليار والنصف مسلم وهم في تزايد مستمر، ولكن الغاية إقامة الحجة على العصاة والشاردين عن منهج الله تعالى.
إذًا، فالغاية التي يسعى إليها الدعاة إلى الله تعالى هي إنارة السبيل إلى الإسلام للناس، وإزالة العقبات من أمامهم، ثم تترك لهم الحرية في اختيار العقيدة التي يشاؤون، وتحقيق قوله سبحانه وتعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..) سورة الكهف/ 29.
ولأن أمة الإسلام أمة أخرجت للناس، وصنعها الله تعالى على عينه، وخصها بالرسالة الخاتمة، والرسول الخاتم، والمعجزة الخاتمة، قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..) آل عمران / 110.
ومن لوازم صفة الخيرية في الأمة الإسلامية ووسطيتها، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا..) البقرة / 143.
وعلى الداعية إلى الإسلام الكشف عن فضائل الإسلام، فمثلًا من فضائل الإسلام خلق التسامح، قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولَم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة 8) أمَّا الأمم المحاربة للمسلمين، والمقاتلين لهم في دينهم، بل المظاهرين على قتالهم، فهؤلاء للإسلام معهم شأن آخر، يقول سبحانه: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة/9.
إذًا، فللأمة الإسلامية مع المخالفين لهما في الملة ما ذكرته الآيتان (8، 9) من سورة الممتحنة.
وقد بدأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بموقف الدولة الإسلامية من غير المسلمين، وذلك في صحيفة المدينة التي هي بمثابة أول دستور للدولة الإسلامية الوليدة في بداية نشأتها حين ضمن لأهل الذمة حقوقهم، وجعل لأتباع الملل الأخرى من الذين يدينون بعقائد بشرية حقوقًا مساوية لأهل الذمة من اليهود والنصارى، وكان حق المواطنة قد تم تطبيقه قبل أن تقرره الحضارة الغربية الحديثة، وتم تفعيله بشكل منظم في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب، الخليفة الثاني حين رأى يهوديًا كفيفًا من أهل الذمة يتكلف الناس، فسأله لم يفعل ذلك ؟ فقال: من أجل أن أدفع الجزية وأنفق على شؤوني، فقال له: ما أنصفناك، أخذنا منك وأنت قوي قادر، ولما ضعفت تركناك، فأمر خازن بيت المال، وقال له: أنظر هذا وأضرباءه، ثم أمر له براتب شهري، وراتب آخر لمن يصحبه ويقوم بشؤونه، وأظن أن هذا هو أول راتب تقاعدي توجبه الدولة الإسلامية على نفسها لرعاياها من أهل الذمة، وهذا من إبداعات عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
هذا هو الإسلام في تجليات قيمه ومبادئه، وسمو تعاليمه.. هذا هو الإسلام في رعايته لحقوق أصحاب الملل الأخرى من اليهود والنصارى، ومن كان في حكمهم، أو على شاكلتهم.. هذا هو الإسلام الذي كان سباقًا ورائدا لكل مبدأ يحافظ على كرامة الإنسان أيًا كان جنسه أو ملته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك