كثيرًا ما يثار السُّؤال حول أديب ما متورِّط في العمل السياسي، ومدى تأثير السياسة على نوعيّة أدبه ومستواه، وهل في هذا ضرر للعملية الإبداعية، أم أنَّ السّياسة ضرورة لا بد منها للأديب، خصوصًا الذي يعيش في منطقة مشتعلة لا تتوقف فيها الحراكات السياسية، وهو جزء من شعب يخوض نضالاً تحرّريًا! لأنّها جزءٌ من حياته وحياة مجتمعه وشعبه، ولا يمكن له بأي حال أن يقف موقف المتفرج إزاءها، وإلا وجد نفسه معزولا عن واقعه.
إذا كان الأديب مبدعًا في الأصل، فهو يرى في السّياسة رافدًا من روافد أدبه، فيبحث عن جذور الأزمات واشتباك السياسي مع الاجتماعي والتاريخي والنفسي، العام والشخصي، القومي والوطني، والإنساني العام الأممي، فينقل التفاصيل الأشدّ حساسية، والتي يعرفها من خلال الحياة اليومية للناس، من دون تحيز فئوي أو حزبي، أو غيرها من التصنيفات.
أما السياسي الذي يمارس الأدب وخصوصًا الشِّعر، فنجد أن أكثره شعر مباشر، وهو شعر منبر تحريضي يراعي ما يظنُّه مزاج الجمهور، وفي أغلب الأحيان يكون متخلفًا جدًا عن المزاج الحقيقي للجمهور، فجمهورنا بات متذوّقًا للشِّعر الأعمق، ويميل مزاجه إلى النَّبرة المنخفضة والهدوء والتروّي، وترك مساحة للمتلقي للتأويل، ومنحه فرصة للاجتهاد.
لعب الشُّعراء والأدباء الفلسطينيون المحلّيون دورًا مهمًّا في بلورة الهوية القومية الفلسطينية، والتعبير عن النكبة قبلها وخلالها وبعدها، وكانت هنالك ضرورة لتأكيد الهوية والانتماء في مواجهة المحو وإنكار وجود شعب فلسطيني من أساسه، ولهذا كان شِعرهم قريبًا إلى المباشرة، وأكثره كان على النمط العمودي، أو شعر التفعيلة لإلقائه أمام جمهور، كي يحفظه الجمهور ويردّده بسهولة. ولكن أدبنا تخطى مرحلة تأكيد الهوية الأساسي، وانتقل إلى مراحل متقدمة، تتغلغل في العمق والنظرة الشاملة.
إذا نظرنا إلى أنجح الأدباء الفلسطينيين وأكثرهم رواجًا، نجد أن للقضية الفلسطينية النصيب الأكبر من أدبهم، ولكن القضية لم تصنع شاعرًا ولا أديبًا، فمن كان شاعرًا أو كاتبًا في الأساس، تطرّق في أدبه إلى قضية شعبه، ولكن بجماليّات ميّزته كمبدع، فحظي باعتراف واحترام النقاد والقرّاء، ولو طُلبتْ منه قطعة أدبية أو قصيدة عن موضوع آخر غير القضية الفلسطينية، لأبدع فيها مثلما أبدع في توصيل قضيته السياسية.
وعلى الصعيد العربي العام، لا نكاد نجد كاتبًا أو شاعرًا عربيًا ذا شأن، إلا وكانت القضية الفلسطينية من بين أولويات اهتمامه، وهؤلاء لم يفصلوها عن قضايا الشعوب العربية عامة، فهي قضية واحدة متداخلة بعضها ببعض، أزمة الديمقراطية والجهل والتجهيل والاحتلال والاستعمار؛ قوى تكمِّل بعضها بعضًا، ابتليت فيها أمَّتنا مثل أمم كثيرة على نطاق العالم.
يوم السبت الماضي، حضرتُ كضيف مهرجان الشِّعر الذي أقيم في سخنين، والذي دعا إليه الاتحاد القطري للأدباء الفلسطينيين ومؤسّسة محمود درويش، تحت شعار «الشعر الفلسطيني سلاحًا»، بمشاركة عشرات الشعراء والشاعرات والمثقّفين، والحقيقة أنَّه كان هناك بعض من قدّموا ما يمكن أن يُمتِع ويوصلَ الفكرة، في قوالب شعرية جميلة ولغة راقية ومرهفة، وهذا ما رأيت فيه سلاحًا بالفعل، لأنّه يصل القلب ويحرِّك المشاعر ويرتقي بالقضية في قوالب جمالية. في الوقت ذاته كان هناك الكثير من «الشعر» المباشر، أو الشِّعر المنبري الذي تخطّته التجربة الشعرية الفلسطينية المحلية منذ عقود، وانتقلت إلى درجات متقدّمة من التكامل بين جماليات اللغة الشِّعرية والفكرة والسّياسة، وقد تكون تجربة الشُّعراء الفلسطينيين هي الأرقى على مستوى العالم العربي، في دمج الشعر بمستواه الراقي الفني مع الفكرة السّياسية، ولهذا على الشعراء الذين ما زالوا يراوحون هناك أن يستخلصوا العبر، وأن يتحرروا مِن ما سماه النقاد «الثقب الأسود»، الذي يمتص الطاقة ويخفي النور، لقد ابتعدنا منذ زمن عن مرحلة إثبات الذات مباشرة على طريقة «سجِّل أنا عربي»!
من المُثلج للصدر أنني لقيتُ تجاوبًا كبيرًا مع مقال نشرته سابقا، وتناولتُ فيه وجود اتحادَين للكتّاب والشعراء العرب بدلاً من واحد، وقد عبّر عشرات من الشُّعراء والكتاب والمثقفين عن تأييدهم لما نُشر، وعن رغبةٍ حقيقيةٍ في اتّحاد واحد وليس في اتّحادين، وبادر بعض الأخوة للتواصل معي للإعداد لبرنامج عمل جاد لتنفيذ الفكرة، وهذا يحتاج إلى نوايا صادقة من الجميع لتحويل الفكرة إلى حقيقة.
{ كاتب وناقد من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك