النفط من أكثر السلع التي يتأثر سوقها بالعوامل غير الاقتصادية، وفي مقدمتها العوامل السياسية، ويرجع ذلك إلى الدور الذي يلعبه في سوق الطاقة العالمي إلى الآن، فلم يبرز بعد البديل الكامل الذي يعوضه في سوق الطاقة، كما أن كبار مستهلكيه هي الدول الكبيرة، مثل الولايات المتحدة، التي استمرت فترة طويلة تحتاج إلى هذه السلعة، وكان لديها باستمرار رغبة أن تكون لاعبًا مؤثرًا في تحديد سعره عالميا.
وفي حين لجأت الدول المنتجة والمصدرة إلى تنظيم سياسات الإنتاج والبيع والتنسيق فيما بينها، وأنشأت لذلك منظمة هي «أوبك»، عام1960، وجد ذلك الاتجاه مقاومة شديدة لا سيما من الإدارة الأمريكية، التي سعت في المقابل إلى منظمة تضم كبار المستهلكين (الوكالة الدولية للطاقة التي تأسست في 1974). ومن المعلوم أن الدول المنتجة ظلت فترة طويلة لا تحصل من نفطها، إلا على عائد محدود من الشركات النفطية الكبرى، التي حصلت منها على امتيازات التنقيب والاستخراج والتصدير، وكانت هذه الشركات، وفي مقدمتها المعروفة بالشقيقات السبع، تنسق السوق النفطية فيما بينها؛ ولأنها شركات أمريكية وأوروبية، فلم تجد هذه السياسة رفضًا من الإدارة الأمريكية.
وفي 14 مارس 2023، أعلن وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان -ردًا على إعلان مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، إعادة تقديم مشروع قانون نوبك - أن وضع سقف سعر للبترول سيؤدي لا محالة إلى عدم استقرار السوق، وأن الرياض، لن تبيع البترول لأي دولة تفرض سقف أسعار على إمداداتها، فيما أكد العزم على اتفاقية أوبك بلس، لخفض الإنتاج حتى نهاية العام. وفي حين بيّن أن التقديرات تشير إلى أن الاقتصاد العالمي سيواصل نموه العام الحالي والعام القادم؛ إلا أن عدم اليقين يظل قائمًا بشأن معدل هذا النمو، كما أن المدة اللازمة لتعافي الاقتصاد الصيني حتى يرجع إلى حالته النشطة مازالت غير معلومة، ويتسبب التعافي الاقتصادي في ضغوط تضخمية، لذا تلجأ البنوك المركزية إلى سياسة نقدية متشددة للسيطرة على التضخم، فترفع أسعار الفائدة، في هذه الظروف يظل الاتجاه السليم هو الإبقاء على اتفاقية أوبك بلس.
وفي واقع الأمر، كان هذا التصريح بمناسبة إعادة طرح مشروع قانون نوبك، والتوسع في وضع سقف لأسعار النفط، فلا يقتصر هذا السقف فقط على النفط الروسي؛ وهي سياسات تعني مخاطر جدية وغموضا أكبر في وقت يحتاج فيه الاقتصاد العالمي إلى الوضوح والاستقرار. وسياسة وضع سقف لأسعار النفط تعزز عدم استقرار السوق وتقلباته، ما يؤثر سلبًا في صناعة البترول التي تحتاج إلى استثمارات كبيرة.
علاوة على ذلك، يضعف مشروع قانون نوبك، الميل إلى الاستثمار في الدول التي تملك احتياطيات نفطية كبيرة، ما يتسبب في انخفاض المعروض بشدة دون الطلب في جميع أنحاء العالم، في الدول المنتجة والمستهلكة وفي صناعة البترول، سواء فرض سقف الأسعار على دولة أو مجموعة دول، وعلى البترول أو أي سلعة أخرى، وإذا استمر وضع الطاقة العالمي على ما هو عليه الآن، فإن نمو الطلب العالمي سيفوق المستوى الحالي من احتياطي القدرة الإنتاجية العالمية.
وفي الوقت الحالي، فإن احتياطيات الطوارئ تقع في أدنى مستوياتها، ولهذا فبدلاً من وضع معوقات، لابد من سياسات تدعم الاستثمارات المطلوبة لزيادة القدرة الإنتاجية في الوقت المناسب، والحفاظ على مخزونات طوارئ كافية. وبالفعل، شرعت السعودية في توسيع قدراتها الإنتاجية لتصل إلى 13.3 مليون برميل يوميًا بحلول 2027، إلا أن العمل في هذا الاتجاه مازال في مراحله الأولى، فإذا ما أقدمت الإدارة الأمريكية على إقرار قانون نوبك، فإن هذا سيثبط الاستثمار في هذه الخطة السعودية التي تعد أساسية لضمان أمن الطاقة العالمي، ومن المتوقع أن تبدأ بواكير هذه الزيادة في 2025.
ويحمل مشروع القانون الأمريكي المعروف باسم نوبك، نوعا من الاتهام للدول الأعضاء في أوبك، فعنوانه لا لتكتلات إنتاج وتصدير النفط، ما يعني أن هذه الدول تمارس الاحتكار من خلال أوبك، ويسمح المشروع لوزارة العدل الأمريكية بمقاضاة أعضاء أوبك وحلفائها للحد من الممارسات الاحتكارية المرتبطة بقطاع النفط. ويهدف القانون -الذي ناقشه مجلس النواب الأمريكي- إلى رفع الحصانة عن أوبك وشركات النفط الوطنية، فيما ذهب إليه من كسر احتكارها للسوق، وفي أنها تتآمر برفع الأسعار وتلجأ إلى سياسات خفض الإنتاج بهدف رفع سعر الخام في السوق العالمي.
واستند مقدمو المشروع إلى قانون شيرمان الفيدرالي لمكافحة الاحتكار لعام1890، والذي يشكل الأساس لمعظم دعاوى الحكومة الفيدرالية في هذا الشأن. ويعطي مشروع قانون نوبك، وزارة العدل الأمريكية سلطات مطلقة لتطبيقه، وتحديد طبيعة الدعوى، ما إذا كانت جنائية أم مدنية أو عدم رفع الدعوى على الإطلاق، من دون الحاجة إلى أي مراجعة قانونية، كما يدعو المشروع إلى حرمان دول أوبك، من أي هامش مناورة في حالة حدوث اضطراب يتعلق بأسعار النفط.
وكان هذا المشروع قد قدم لأول مرة في عام 2000، وعارضته غرفة التجارة الأمريكية، واتحاد الصناعات البترولية الأمريكي، ولكن المشروع يثار في الكونجرس بين حين وآخر. وبين عامي 2000 و2012 تعرض المشروع إلى 16 تعديلا. وحتى نهاية عام 2022، لم يقر حتى يصبح قانونًا فاعلاً، ومنذ الطرح الأول جرت محاولات لرفع الحصانة السيادية التي تحمي أوبك وحلفاءها من الدعاوى القضائية.
بالإضافة إلى ذلك، ينص نوبك على حظر أي دولة أو جهة أجنبية، مثل أوبك، من تحديد سقف الإنتاج أو السعر المستهدف للنفط، كما يمنع الانخراط في عمل فردي أو جماعي للتأثير في سوق النفط أو الغاز الطبيعي، أو أي منتج بترولي آخر، سواء من حيث العرض أو السعر أو التوزيع في الولايات المتحدة على وجه التحديد، وسواء عن طريق التكتل الاحتكاري أو أي اتحاد آخر أو أي شكل من أشكال التعاون أو العمل المشترك، ويحظر اتخاذ أي إجراء يقيد تجارة النفط أو الغاز، خصوصًا عندما يكون لهذه الإجراءات تأثير مباشر في أسعار المنتجات البترولية وتوزيعها في واشنطن، ولا يسمح القانون للمحاكم الأمريكية، برفض النظر في الدعاوى الخاصة بهذا الشأن لأي سبب من الأسباب، مثل تصرفات الدول أو السيادة أو المعتقد السياسي، ويمنع أوبك، على وجه التحديد وأعضاءها من جميع الإجراءات أو التصرفات المتعلقة بخفض أو زيادة إنتاج النفط أو تحديد أسعاره، ويلغي الحصانة السيادية للمنظمة والدول الأعضاء التي تتمتع بها أمام المحاكم الأمريكية.
وفي 2007، وافق الكونجرس الأمريكي على مشروع القانون، لكن الرئيس جورج بوش، أعاق تمريره بموجب حق النقض الذي يتمتع به، وكان ترامب، من مؤيديه قبل توليه الرئاسة، ولكنه لم يطرح للتصويت عليه خلال فترة ولايته. وفي 5 مايو 2022، مررت اللجنة القضائية التابعة للكونجرس مشروع القانون، لكنه لم يطرح للمناقشة العامة. ونشرت اللجنة القضائية على موقعها الرسمي أن نوبك مشروع قانون سيساعد حكومتنا على تطبيق قوانين مكافحة الاحتكار ضد هذه البلاد أعضاء وحلفاء أوبك . وبعد التخفيضات التي أعلنتها أوبك بلس، في إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميًا، بدءًا من نوفمبر 2022، لتحقيق تعافي أسعار الخام، أشارت إدارة بايدن، إلى أنها قد تكون على استعداد لدعم مشروع قانون نوبك، الذي يحظى بتأييد كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
ومع ذلك، يقابل هذا التأييد معارضة شديدة من قبل معهد البترول الأمريكي، وغرفة التجارة الأمريكية؛ طمعًا في استفادة منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة من انضباط إنتاج أوبك، وتعزيز الأسعار. ويرى معهد البترول -وهو أكبر جماعة ضغط في قطاع النفط والغاز الأمريكي- أن هذا القانون يضر بمنتجي النفط والغاز في واشنطن، وأنه سيخلق تذبذبا في السوق، ويفاقم التحديات الحالية في التجارة الدولية، وأنه لن يكون مفيدًا في أي ظرف، فيما قد يترتب عليه فرط في إنتاج النفط ما يؤدي إلى تدهور الأسعار، وقتل الحافز على الاستثمار لدى شركات الطاقة الأمريكية، في الوقت الذي تستطيع دول الأوبك، تحمل الأسعار المنخفضة؛ لأن كلفة الإنتاج لديها أقل بكثير من الشركات الأمريكية.
وفضلاً عن أن هذا القانون الذي ينظر إليه كإجراء عقابي، قد يتسبب في ردود أفعال تضر الاقتصاد الأمريكي نفسه، كوضع قيود على استثمارات الشركات الأمريكية، أو بيع النفط بعملات غير الدولار الأمريكي. وقد سبق للسعودية أن أعلنت ذلك عام 2019، ما من شأنه تقويض مكانة الدولار كعملة احتياطية رئيسية في العالم، وتقليل نفوذ واشنطن، في التجارة العالمية.
وعليه، فإن السبب الأساسي وراء فشل تمرير القانون طيلة السنوات الماضية، يرتبط بالمصالح السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة وعلاقاتها الاستراتيجية مع كبار منتجي النفط، ولا ننسى أن الرياض، تقف على قمة مشتري الأسلحة الأمريكية، وأن مخاطر تمرير مثل هذا القانون لن تكون أضراره على الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن والرياض فقط، ولكنها قد تأتي بنتائج عكسية على الاقتصاد الأمريكي نفسه، فقد يعرض الشركات لإجراءات مضادة في جميع أنحاء العالم.
وإذا كانت آلية وضع سقف لأسعار النفط الروسي، واحدة من الأدوات التي استخدمها الغرب لمعاقبة موسكو، في مجريات الحرب الأوكرانية؛ فإن السعودية أعلنت منذ البداية رفضها لهذه الآلية، وذلك للدور المحوري لروسيا في تحالف أوبك بلس، وفي سوق النفط العالمي، وأن أي اضطراب في تدفق نفطها من شأنه ارتفاع الأسعار، وهو ما حدث بالفعل، وأضر مستهلكي الطاقة الأمريكيين أنفسهم، رغم أن ارتفاع أسعار النفط يصب في مصلحة السعودية ومنتجي النفط الآخرين.
على العموم، فإن التعقيدات الجيوسياسية الدولية الراهنة، ومرحلة إعادة التقييم التي تمر بها العلاقات السعودية الأمريكية؛ تجعل من غير المتوقع أن تلجأ واشنطن، إلى إقرار مشروع نوبك، لأنه يأتي ضد الاتجاه الذي عبر عنه بايدن، لدى زيارته الأخيرة للرياض، ومحاولة استرداد ما خسرته بلاده في المنطقة، وكانت هذه الخسارة لصالح منافسين في مقدمتهم الصين.
وجاءت تصريحات وزير الطاقة السعودي في 14 مارس الماضي، ردًا على إثارة موضوع نوبك مجددًا؛ قوية، حيث أعلن أنه في حالة فرض سقف أسعار على صادرات بلاده من النفط، ستخفض إنتاجها اليومي، وكذلك لن تبيع النفط لأي دولة تشارك في قرار سقف السعر. وعلى الرغم من الضغوط الهائلة التي مارستها إدارة بايدن، لزيادة إنتاج السعودية من النفط لتعويض جزء من النفط الروسي الذي تعرض لعقوبات أمريكية، تمسكت الرياض، بموقفها النابع من مصلحتها، كأكبر مصدر للنفط في العالم وقررت خفض الإنتاج.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك