الجيل الحالي لا يعرف المبيد الحشري المشهور الذي استخدم في فترة الأربعينيات إلى مطلع السبعينيات من القرن المنصرم في كل أنحاء العالم من دون استثناء، في المنازل والمستشفيات والحقول الزراعية والمستنقعات المائية، وهو المبيد المشهور بـ«دي دي تي» (DDT).
فهذا المبيد المعجزة، الواقي من الأمراض المعدية والمستعصية على العلاج كالملاريا والتيفوئيد وغيرهما بلغ كل شبرٍ من كل بلد في جميع دول العالم، كما دخل منازل البشر في كل المدن والقرى القريبة والنائية حول العالم، ولكن جِيلي له ذكريات ومشاهد وصور مضحكة ومحزنة في الوقت نفسه مع هذا المبيد الأعجوبة.
ففي الستينيات من القرن المنصرم كان يزورنا في أحيائنا عامل وزارة الصحة بين الحين والآخر، ويحمل على ظهره حاوية معدنية صغيرة الحجم، وتحتوي هذه الحاوية التي على ظهره على المبيد الحشري «دي دي تي»، حيث تمتد أنبوبة مطاطية من هذه الحاوية فيرش بها العامل البواليع في داخل وخارج المنزل، والمستنقعات المائية. فعندما كُنا نرى هذا العامل نركض وراءه، ونحوم حوله، ونلتمسه أن يرش علينا هذه المادة البيضاء التي تخرج من الأنبوبة، فيقوم استجابة لالتماسنا بالرش علينا وتكوين سحب بيضاء كثيفة ندخل فيها، ثم نخرج منها فرحين مبتهجين في غاية الأنس والسرور. فقد كانت فعلاً أوقات مرحة بريئة وساذجة، وأوقات ضحك وتسلية مكلفة جداً على بيئتنا وصحتنا، فلم ندرك في ذلك الوقت، كما أن العالم كله لم يكن يعرف حقيقة هذه المادة، وما تحملها من سموم مستقرة وثابتة تتراكم في جميع مكونات البيئة، فتقتل الآفات والحشرات، كما هي تقتل في الوقت نفسه الإنسان والحياة الفطرية على المدى البعيد.
وبعد تفشي وانتشار استعمال هذا المبيد، بدأت تنكشف خيوط دقيقة ومقلقة على مكونات بيئتنا، وعلى الحياة الفطرية، وأخيراً على الإنسان، ومع مرور الوقت، ومع الإفراط في رش هذا المبيد براً، وبحراً، وجواً ظهرت ملامح ومؤشرات أكثر عمقاً ووضوحاً تثبت نزول واحدة من أكبر الكوارث البيئية الصحية العقيمة التي شهدها الإنسان. فهذا المبيد العضوي الثابت والمستقر الذي لا يتحلل ويقاوم الظروف الطبيعية، تم اكتشافه وبتراكيز مرتفعة جداً في كل الأوساط البيئية في كل بقعة من بقاع الأرض، بعيدة كانت أم قريبة، في البر والأدغال الكثيفة، أو في أعماق البحار المظلمة، وهذا المبيد أيضاً تشبعت به أجسام الكائنات الفطرية، سواء أكانت الطيور المائية التي تتغذى على الأسماك، أو الكائنات البحرية النباتية والحيوانية، المجهرية والصغيرة منها أو الكبيرة كأسد البحر والدلافين والحيتان. ومع اكتشاف هذا المبيد في مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، كان الإنسان الضحية الأخيرة التي وقعت فريسة سهلة لهذا المبيد، فظهر المبيد في كل خلية من خلايا جسم الإنسان، بل وتم اكتشاف المبيد في حليب الأم، أي أن تأثيرات المبيد السامة والقاتلة تعدت الأجيال البشرية الواحدة، فلم تكن تداعياتها تمس هذا الجيل الذي تعرض له مباشرة، وإنما تخطت وتجذرت في أعماق الأجيال اللاحقة التي شربت مباشرة حليباً ملوثاً بهذا المبيد، كما تعرضت بشكل غير مباشر لبقايا المبيد في مكونات بيئتنا والمواد الغذائية التي نتناولها.
فهذا الوضع المأساوي الذي نزل على البشرية والحياة الفطرية، اضطر دول العالم ومنظمة الصحة العالمية إلى التوقف عن استخدام المبيد، وحظر استعماله كلياً، إلا في الحالات الضيقة والمستعصية جداً، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال بحظر استعماله في عام 1972.
ولذلك اعتبر العالم بهذا القرار أنه قد انتهى من كارثة «دي دي تي» كلياً، فدفنها وجعلها وراء ظهره، فأصبحت جزءاً من التاريخ البيئي الصحي، ولكن تعلمنا الآن بعد تجارب مريرة قاسية، ومن دروس كثيرة واقعية شاهدناها أمامنا أن بعض القضايا البيئية لا تنتهي مهما اتخذنا من إجراءات صارمة على المستوى الدولي، فهي تبقى خالدة مخلدة في بيئتنا وفي أعضاء أجسامنا.
وهذا هو الحال مع «دي دي تي»، فهو ومنذ سنوات قليلة يظهر فجأة أمامنا، وبالتحديد في سواحل مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، ويثبت لنا جميعاً بأنه وبعد مرور أكثر من خمسين عاماً على منعه مازال حياً ينبض بالحياة، ومازال موجوداً في بيئتنا.
فقد نشرت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» في 24 مارس 2023 تحقيقاً تحت عنوان: «تراكيز مرتفعة من دي دي تي تم اكتشافها في مناطق واسعة من قاع البحر في كاليفورنيا»، وهذا التحقيق العلمي يستند إلى معلومات من الباحثين الذين يقومون منذ نحو عشر سنوات بدراسة المنطقة البحرية في المحيط الملوثة بالمبيد، ويقومون بتحليل عينات من التربة القاعية على مساحة واسعة تزيد على مساحة البحرين عدة مرات.
ومن خلال هذه الدراسات توصلوا إلى عدة حقائق تهم الجميع حول العالم، كما يلي:
أولاً: قام أكبر مصنع لإنتاج المبيد في الفترة من 1947 إلى 1982 وهو «مونتروز» (Montrose) في مدينة لوس أنجلوس بصرف مخلفاته الصناعية مع مياه المجاري إلى سواحل المحيط، كما قام طوال 35 عاماً على تكديس أطنانٍ من المخلفات الحمضية شبه الصلبة الحمضية التي تحتوي على دي دي تي في نحو نصف مليون برميل ورميها في سرية تامة عند جنح الليل في ظلمات المحيط على عمق نحو ألف متر عند جزيرة سانتا كاتالينا (Santa Catalina).
ثانياً: عينات التربة القاعية في المحيط التي جُمعت بعد خمسة عقود من إلقاء مخلفات المبيد الحشري دي دي تي، أكدت وجود المبيد في قاع البحر وفي الحياة الفطرية البحرية بمستويات مرتفعة جداً وفي مناطق واسعة من قاع البحر وفي الطبقات السفلى من التربة، حيث قال أحد العلماء الذين يُجرون هذه الدراسة: «إننا ما زلنا نكتشف دي دي تي الذي تم رميه في براميل قبل أكثر من ستين عاماً، وهذا يعني أن هذه المادة لا تتحلل كما كُنا نتوقع سابقاً، وهذا المبيد يغطي مساحات واسعة من قاع المحيط»، كما قدَّر العلماء كمية المبيد في قاع البحر من 384 إلى 1535 طناً.
ثالثاً: هذه الكارثة تكررت عدة مرات في دول مختلفة خلال المائة سنة الماضية، منها على سبيل المثال لا الحصر كارثة تلوث بحيرة مينماتا في اليابان منذ الخمسينيات من القرن المنصرم بعنصر الزئبق الشديد السمية، ومنها تلوث كوكبنا بالمخلفات الميكروبلاستيكية الصغيرة الحجم التي لا تتحلل وتبقى مستقرة في بيئتنا وتتراكم في أجسامنا، وأخيراً هناك الملوثات العضوية متعددة الفلورين التي أَطلق عليها العلماء بالملوثات الخالدة التي لا تتغير ولا تتحلل عند دخولها في بيئتنا.
فكل هذه الكوارث القديمة المتجددة التي تنزل علينا سببها هو استعجال الإنسان في إدخال المنتجات التي تحتوي على مواد خطرة وسامة إلى الأسواق وإلى بيئتنا من دون إجراء الدراسات الضرورية الشاملة لمعرفة كيفية تَصرف هذه المنتجات بعد الانتهاء من صلاحيتها واستخدامها، وماذا سيكون مصيرها عند صرفها في الأوساط البيئية المختلفة.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك