عندما يجري الأمين العام للأمم المتحدة محادثات مع حكومتي بغداد وأربيل على قدم المساواة، فإن ذلك يعني أن المنظمة الأممية تعترف بوجود حكومتين في العراق، كل واحدة منهما تُدير شؤون دولة مستقلة.
وإذا ما عرفنا أن هناك مكاتب هي أشبه بالسفارات في عواصم الدول الكبرى تقوم بتمثيل الإقليم الكردي دبلوماسيا، وأن ناظم الزهاوي الذي تمت إقالته من منصب رئاسة حزب المحافظين في بريطانيا بعدما وُجهت إليه تهمة التهرب الضريبي كوّن الجزء الأكبر من ثروته من الوساطات التي قام بها بين شركات النفط والزعماء الأكراد بعلم الحكومة البريطانية، فإن إعلان قيام دولة كردية ليس ضروريا ما دامت تلك الدولة قائمة ومعترفا بها من الأمم المتحدة والدول الكبرى. وهو ما لم تعلق عليه الحكومة العراقية التي سبق لها أن اعترضت مرات عديدة على قيام الإقليم الكردي ببيع النفط العراقي والاستيلاء على وارداته المالية.
وإذا كانت الأزمات بين بغداد وأربيل تتصاعد وتخفت بين حين وآخر بحسب حاجة الأحزاب الشيعية إلى الدعم الكردي أو زيادة الابتزاز الكردي بما يشكل ضغطاً على الموازنة العامة، فإن هناك مشكلة دستورية ليس في الإمكان حل عقدتها وهي التي تتعلق بما سُمي بالمناطق المتنازع عليها. عبارة قانونية تشف عن الاعتراف بوجود دولتين.
خيرا فعل الأكراد حين أداروا ظهورهم للجحيم الطائفي الذي انفتحت أبوابه على العرب خارج إقليمهم بعد الغزو الأمريكي عام 2003. لقد عرف الأكراد كيف يستفيدون من النظام الجديد من غير أن يسقطوا في هاويته. قبضوا الأرباح وتحاشوا دفع التكلفة. تصرفوا بذكاء سياسي لافت حين حضروا في أزمات النظام باعتبارهم بيضة القبان. وقف الحزبان الكرديان «الحزب الديموقراطي الكردستاني» و«حزب الاتحاد الوطني الكردستاني» إلى جانب الأحزاب الشيعية بعدما حصلا على وعود بتطبيق المادة 140 من الدستور العراقي الجديد الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، وهي كانت أشبه بلغم، يمكن أن يفجر الدستور كله لو تمت قراءته بطريقة صحيحة.
فالمحتوى الحقيقي لتلك المادة إنما يضع نفط كركوك تحت سلطة الإقليم الكردي. وهو ما لا يمكن لبغداد أن توافق عليه. وإذا ما كانت المليشيا الكردية «البيشمركة» قد تراجعت أمام «الحشد الشعبي» في المدينة المتنازع عليها، فإن الأكراد ما زالوا يعتبرونها مدينة كردية في إشارة إلى كردية نفطها.
وكما يبدو فإن الصراع إنما يقوم بين دولتين، غير أن الأكراد لا يرغبون في أن تسمم التسميات مجرى المفاوضات. فالدولة الكردية المستقلة التي هي واقع حال والمعترف بها ضمنياً من حكومة بغداد ينبغي عدم الجهر بها ما دامت بغداد ترغب في أن يكون هناك نظام اتحادي تكون هي مقر سلطته. ذلك نوع من التواطؤ الذي سبق للأحزاب الشيعية أن وافقت عليه.
كلما تعرضت الأحزاب الشيعية الموالية لإيران لهزة من داخلها أو تهديد من خارجها لجأت إلى «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بالذات ليكون سنداً لها في مواجهة خصومها.
في مقابل ذلك كان الأكراد يضغطون من أجل تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي مع علمهم بأن عمليات تكريد المناطق المتنازع عليها وبالأخص كركوك بعد عام 2003 شبيهة بعمليات تعريبها من جانب النظام السابق. وهو ما تتعامل بغداد معه بحذر شديد يدفعها إلى اتخاذ قرارات يعتبرها الأكراد قاسية في حقهم. فرغم أن الإقليم الكردي يحصل على 17 في المئة من الموازنة العامة فإنه لا يمول موازنته بإيرادات المعابر الحدودية أو مبيعات نفطه.
وهي أموال تعتقد بغداد أنها من حق الشعب العراقي وليس من حق أفراد بعينهم. لذلك فإنها تلجأ أحياناً إلى المماطلة في صرف مخصصات الإقليم المالية.
يحدث ذلك في الوقت الذي يقدم الأكراد أسباباً مقنعة لعدم الثقة بهم كما حدث في استفتاء عام 2017 الذي أُقيم من طرف واحد وكانت نتيجته الدعوة إلى الانفصال.
وفي كل مرة يطالب بها الأكراد بتفعيل المادة 140 فإنهم لا يخفون نزعتهم الانفصالية وهو ما يُخيف بغداد من جهة أن أي تغيير في الخرائط سيعزز قوة الإقليم وقدرته على إدارة نزاعاته مع الحكومة الاتحادية رغم أن بغداد نفسها لا تفكر في ظل الهيمنة الإيرانية في استعادة نفوذها السياسي في الإقليم.
بعد فشل تجربة استفتاء الانفصال غيّر الزعماء الأكراد تقنيات سلوكهم السياسي رغبة منهم في استعادة وجودهم ضمن قواعد اللعبة التي وضعها الأمريكيون حين أسسوا العراق الجديد. تضمن لهم تلك اللعبة استقلالاً ممولاً من حكومة بغداد من غير أن تلزمهم بالتخلي عن التمتع بـ«حق» الاستيلاء على إيرادات المعابر الحدودية والنفط المستخرج من الإقليم.
وإذا ما كانت الحكومة العراقية تعارض تمتعهم بذلك «الحق» فإنها لا ترغب في أن تدخل في أزمة مع دول غربية لا تمانع في قيام الأكراد بتصدير نفطهم بدليل ما انكشف من وساطات قام بها الوزير البريطاني السابق.
غير أن ما يقف عائقاً ما بين الأكراد وبين إعادة ترتيب أوراقهم بشكل مؤثر على الساحة المحلية أن الخلافات الداخلية بين حزبيهم الرئيسيين القائمة على أساس تضارب مصالح الزعماء تكشف عن هشاشة بنيتهم السياسية. وهو ما تستفيد منه الأحزاب الشيعية حين تفرض شروطاً موقتة تتعلق بتصويت النواب الأكراد داخل مجلس النواب.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك