شهدت السنوات الأخيرة توترًا في العلاقات الخارجية لبريطانيا مع الحلفاء والشركاء التاريخيين. وأوضح «أناند مينون»، و«صوفي ستويرز»، من مركز «المملكة المتحدة في أوروبا المتغيرة»، أن «حالة عدم اليقين كانت أمرًا مُتكررًا في علاقة الاتحاد الأوروبي وبريطانيا منذ عام 2016». وتم تأكيد تراجع العلاقات «الأنجلو-فرنسية»، عندما تساءلت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، «ليز تراس»، عما إذا كانت باريس «صديقة أم عدوة» للندن، وهي التصريحات التي أثارت انتقادات الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، معتبرا أن هناك «مشاكل خطيرة» في العلاقات الثنائية.
من ناحية أخرى، توترت علاقات «الولايات المتحدة»، مع «بريطانيا»، أيضًا عندما شرعت الأخيرة في أجندتها للسياسة الخارجية في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي. وأوضح وزير خارجيتها –آنذاك– أن العلاقات بين «واشنطن»، و«لندن»، كانت «خاصة، ولكنها ليست استثنائية»، فيما انتقد الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، لاحقًا خطط «تراس» الاقتصادية.
ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك إنجازات على صعيد السياسة الخارجية بين بريطانيا وحلفائها الغربيين خلال هذه الأوقات. وبالإضافة إلى قيامها بدور قيادي في دعم التحالف عبر الأطلسي لأوكرانيا، بعد العملية العسكرية الروسية؛ وافقت «لندن»، في سبتمبر 2021، على اتفاقية دفاعية جديدة مع (الولايات المتحدة، وأستراليا (والمعروفة باسم (أوكوس)، مع عامل رئيسي هو توفير الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية للأخيرة.
ومع تولي «ريشي سوناك»، رئاسة الوزراء منذ أكتوبر 2022، شهدت العلاقات مع أقرب الحلفاء التاريخيين لبريطانيا «زخمًا تصاعديًا ملحوظًا». وأشار «ماتياس ماتيس»، من جامعة «جونز هوبكنز»، إلى أنه قام بـ«إعادة ضبط الأمور من أجل إصلاح العلاقات مع أوروبا»، في حين اعتبر «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، «أن هناك منطقًا جديدًا ونافذة من الفرص للتقارب بين فرنسا وبريطانيا»، وخلال زيارته الأولى للولايات المتحدة أكد أهمية التحالف الغربي، وأعلن الخطوات التالية لاتفاق (أوكوس).
وبالإضافة إلى دعم أوكرانيا ومواجهة روسيا، فإن علاقات «المملكة المتحدة»، مع حلفائها تشكل جزءًا من استجابة أوسع لتنامي دور «الصين»، في الشؤون الدولية. وفي مارس 2023، أصدرت حكومتها تحديثًا للمراجعة المتكاملة لعام 2021، بعنوان «الاستجابة لعالم أكثر تنازعًا وتقلبًا». وأوضحت مجلة «بوليتيكو»، أن «جزءًا كبيرًا» من السياسة الأمنية البريطانية المستقبلية، «يهدف إلى تحسين قدرة «لندن» على تفهم سياسة «بكين»، وقوتها العسكرية»، وكذلك مساعدة جهود التحالف الغربي الأوسع، بقيادة الولايات المتحدة لمواجهة ذلك.
علاوة على ذلك، تؤكد «المراجعة المتكاملة»، لعام 2023، أيضًا رغبتها القوية في «دخول مرحلة جديدة من العلاقات في أوروبا». ولاحظ المعلقون أن التحسينات في هذه العلاقات كانت من السمات المميزة لسياسة «سوناك»، الخارجية والاقتصادية. وأوضح «ماتيس»، أنه في أعقاب استفتاء «البريكست» عام 2016، الذي صوت فيه البريطانيون بفارق ضئيل لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ كانت علاقة المملكة مع «بروكسل»، «مشحونة»، وتميزت بسنوات من المفاوضات الحادة».
وفي محاولاته لإصلاح العلاقات مع أوروبا؛ كان الإنجاز الأساسي لرئيس الوزراء، هو التوصل إلى تسوية جديدة حول «أيرلندا الشمالية» – التي تعتبر جزءا من المملكة المتحدة، فيما تحتفظ بوضع حدودي خاص مع «جمهورية أيرلندا»، العضو في الاتحاد الأوروبي – وذلك بشأن اللوائح التجارية والتعريفات والقوانين والجمارك، والتي لطالما مثلت صداعا سياسيا. ومن الناحية النظرية، كان لأيرلندا الشمالية أفضل ما في الجانبين، حيث يمكنها التمتع بالوصول الكامل إلى كل من السوق الأوروبية الموحدة، والمملكة المتحدة؛ وعمليا، أوضح «ماتيس»، أن «العديد من القوانين التي تم تمريرها في المملكة، لن تنطبق على سكانها، كما لن يكون لمواطنيها رأي في لوائح «بروكسل» الجديدة، والتي تنطبق عليهم». ولاحظ «عظيم إبراهيم»، من «معهد نيولاينز للاستراتيجية والسياسة»، أن هذه الحالة كانت «مزيجًا غير مريح»، لجميع المعنيين، حيث «انفصلت أيرلندا الشمالية فعليًا عن بقية أقاليم المملكة المتحدة».
وعند توليه منصبه، وضع «سوناك»، هذه العقبة السياسية كأحد أهدافه الرئيسية. وأوضح «ماتيس»، أن وزير الخزانة السابق «أكد لرئيسة المفوضية الأوروبية، «أورسولا فون دير لاين»، أنه يسعى إلى إيجاد حل لهذه المشكلة، ويعمل لرؤية «اتفاقية نهائية». وعلى عكس أسلافه «بوريس جونسون»، و«تراس»، تمت الإشارة إلى أن «فون دير لاين»، كانت تعتقد أن «سوناك»، «يمكن الوثوق بوعوده في المفاوضات، وبالتالي مُنح «تنازلات أكثر جوهرية» من قبل «بروكسل».
ومن خلال اتفاق «إطار عمل وندسور»، الخاص بأيرلندا الشمالية، وعلاقتها بالاتحاد الأوروبي، والذي يسمح للصادرات بالمرور عبر ممر تجاري معين، مع الحد الأدنى من الرقابة الجمركية، بالإضافة إلى منح المحاكم بها القدرة على معارضة قوانين «بروكسل»؛ رأى «إبراهيم»، أن «سوناك»، «يبدو أنه ارتكن إلى انتصار متواضع». ووفقًا لما قاله «ماتيس»، فإن أكبر جائزة له من المفاوضات الناجحة مع الاتحاد الأوروبي، هي «بداية استعادة العلاقات الجيدة مع التكتل»، حيث إن «النوايا الحسنة المتولدة بين الجانبين»، ستساعد في تسهيل التجارة المستقبلية، والاتفاقات السياسية والأمنية.
وبشكل خاص، تعد «فرنسا»، إحدى الدول الأوروبية، التي نجح رئيس الوزراء في خفض التوترات السابقة معها. وفي تناقض واضح لعلاقة «تراس» المضطربة مع «إيمانويل ماكرون»؛ أشاد «سوناك»، بـ«بداية جديدة» في العلاقات الأنجلو – فرنسية، لاسيما مع إشارة «ماتيس»، إلى كيفية «استثمار علاقته»، مع نظيره الفرنسي. وتم بالفعل تسليط الضوء على الصداقة الشخصية الأكثر ودية بين الزعيمين.
وفيما يتعلق بانعكاس هذه السياسات على أهداف «بريطانيا» الخارجية والأمنية، خاصة مع إعلان حكومتها «المراجعة المتكاملة لعام 2023»، وتأكيدها «لعب دور قيادي في الحفاظ على الاستقرار والأمن والازدهار» في أوروبا؛ قال «برونوين مادوكس»، و«ديفيد لورانس»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، إن «التزامها تجاه أوكرانيا»، أصبح الآن «مركز الصدارة» في سياستها الخارجية، حيث قدمت إليها 2.3 مليار جنيه إسترليني دعما عسكريا خلال العام الأول من الحرب، فضلا عن 2 مليار جنيه إسترليني أخرى كمساعدات اقتصادية وإنسانية.
وفي ضوء التزامها المتجدد بالأمن الأوروبي، أشارت «أليس جالاند»، و«إيلي تينينباوم»، من «المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية»، إلى أن التحسن في العلاقات الثنائية بين «بريطانيا»، و«فرنسا»، ساعد في «بناء علاقات أمنية ودفاعية أقوى». ومع التطرق إلى جدول أعمالهما «الطموح والمتسم بالواقعية»، فإن تلك الأجندة تشمل تشكيل «أطر أمنية أوروبية جديدة، ونشر عمليات مشتركة، ومشروعات تطوير للقدرات العسكرية»، بالإضافة إلى تنسيق متبادل بشأن الإمدادات العسكرية الخاصة بكل منهما لـ«كييف». ومع ذلك، أشار الباحثان إلى أن كلا الجانبين، «يحتاج إلى أخذ وقت للتوسع في فهم الأولويات الاستراتيجية الأوسع للآخر»، حيث لا تزال هناك «اختلافات»، حول سياسة الدفاع الأوروبية المشتركة، والدور الذي تلعبه أمريكا في التحالف عبر الأطلسي، وغيرها من القضايا.
من جانب مشابه، كان هناك تحسن في العلاقات الثنائية بين كل من «واشنطن»، و«لندن»، في عهد «سوناك»، لاسيما في ضوء انتقاد «بايدن»، لخروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبي، وتخوفاته حيال التزامها باتفاقية «الجمعة العظيمة» المعنية بضمان السلام والاستقرار في أيرلندا الشمالية. وأوضح «ماتيس»، أن اتفاق رئيس الوزراء الأخير مع «بروكسل»، بشأن التجارة والسيادة مع أيرلندا الشمالية، سوف «يزيل أي شك»، يتعلق بمخاوف «واشنطن»، بشأن «التوترات المتزايدة» بهذا الشأن، كما أن «الولايات المتحدة»، لطالما كانت من المدافعين عن حلفائها الغربيين، مثل بريطانيا وفرنسا، وهو ما دفع «باتريك وينتور»، في صحيفة «الجارديان» يقول إنه «لا يوجد أي سياسي أو صانع قرار أكثر حرصًا على رؤية التعاون البريطاني الأوروبي في المجالات الدفاعية والعسكرية من الرئيس الأمريكي نفسه».
وشهدت زيارة رئيس الوزراء الأخيرة إلى «واشنطن»، تأكيد التزام بلاده بالأمن الإقليمي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، خاصة ما يتعلق باتفاقية (أوكوس). ووفقًا لـ«مادوكس»، و«لورانس»، فإن هذا «التحالف ذو ثقل من الناحيتين الرمزية والعملية على حد سواء». وبحسب «تشارلز إيدل»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، فإن الاتفاقية «تساعد على استقرار منطقة المحيطين، التي لطالما كانت مضطربة بسبب التوسع السريع للقدرات العسكرية للصين، وأهداف سياستها الخارجية. ومع استشهاد «مادوكس»، و«لورانس»، بكيفية ممارسة «بريطانيا»، دورها في استقرار أمن هذه المنطقة، أوضحا أنها ستحتاج إلى «تحويل مواردها وأولوياتها لهذه البقعة، وسط العديد من التحديات الجيوسياسية الأخرى، ذات الأهمية الاستراتيجية لها».
وعلى الرغم من تعزيز دورها وتحديها الاستراتيجي للصين عبر هذا التحالف، حيث وصفت «بكين»، بأنها «تحدٍ واضح» للسياسات البريطانية وتحقيقها لأهدافها؛ فقد شكك المعلقون في قوة سياسات «سوناك» بهذا الشأن. وأكدت «كريستينا جاياردو»، من مجلة «بوليتيكو»، أن حكومته «تتبنى «نهجًا دقيقًا بشأن الصين» من خلال كسر مجموعة من التبعيات لها، من دون الانفصال تمامًا عن تلك القوة الآسيوية والانعزال عنها». وعليه، اتهم «مادوكس»، و«لورانس»، الحكومة البريطانية، بأنها» غامضة للغاية في مواقفها، بشأن «الصين»، مشيرين إلى أن المسؤولين والوزراء «يتصارعون طيلة أشهر حول آليات التعامل معها؛ بسبب رغبتهم في تحقيق التوازن في العلاقات التجارية معها من دون تأثر».
أما بالنسبة إلى تعاملات «المملكة المتحدة» مع بقية دول العالم، فقد أوضح «مادوكس»، و«لورانس»، أنه مع تولي «سوناك»، بات هناك «إحساس متزايد لدى بريطانيا بأهمية تعزيز دورها الدبلوماسي مع الجمهوريات السوفيتية السابقة التي تتنافس عليها موسكو والغرب».
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، أشارت المراجعة المتكاملة لعام 2023، إلى الخليج العربي، باعتباره منطقة ترى فيها آمالاً متزايدة على «تعميق علاقاتها مع مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة المؤثرة»، و«بناء علاقات طويلة الأمد عبر مصالحهما المشتركة». ومع الاعتراف بالخليج كمنطقة ذات «أهمية جيوسياسية متنامية»، تعكس «المراجعة المتكاملة»، إشارات إجماع حول طبيعة تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة، وتأثر سياسات «واشنطن»، الخارجية مع شركائها وحلفائها لدرجة جعلت منطقة الشرق الأوسط مسرح «تنافس كبير على النفوذ والسيطرة»، وسط «تحولات جيوسياسية بالغة الخطورة».
على العموم، في حين أن دعم «بريطانيا»، لأوكرانيا لا يزال مسيطرا على مسارات سياستها الخارجية؛ فقد لقيت سلسلة التطورات ونقاط التقدم الملحوظة في علاقاتها مع الحلفاء التاريخيين ترحيبًا من قبل المعلقين الغربيين. وفي حين أدى التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، بشأن «أيرلندا الشمالية»، إلى تعزيز النوايا الحسنة لدى كل من «بروكسل»، و«واشنطن»، إزاء النوايا البريطانية؛ ظهرت العلاقات الأكثر ودية بين حكومتي المملكة المتحدة وفرنسا، وهو ما تم ترجمته إلى تعاون دفاعي وأمني أعمق مما كان.
وبينما حذر «ماتيس»، من أن «سوناك»، «لا يزال يواجه تحديات سياسية واقتصادية كبيرة». وأوضح «مادوكس»، و«لورانس»، أن «أكبر نقطة ضعف» في السياسة الخارجية الحالية للمملكة المتحدة هي عدم توافر الموارد اللازمة لممارسة الدور الذي تريده على الساحة العالمية»؛ فقد تمت الإشارة إلى أن العلاقات التي تم إصلاحها مع الاتحاد الأوروبي، وفرنسا، والولايات المتحدة، قد «تسفر عن المزيد من النتائج العملية للحكومة من أجل مساعدة اقتصادها المتعثر للخروج من فترات اضطرابه الراهن».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك