من المُتع الجميلة التي أستمتع بها العودة إلى صندوق جدي الحاوي للعديد من الأوراق الصفراء التي تحوي العديد من القصص والحكايات عن أزمان لم أعشها، وتعطيني العبرة والعظة في الكثير من الأمور، ومن تلك الحكايات هذه التي أنقلها إليكم اليوم..
يروي جدي ويقول؛
يحكى أن فتى قال لأبيه: أريد الزواج من فتاة رأيتها وأعجبني جمالها وسحر عيونها.
رد عليه الأب وهو فرح مسرور وقال: أين هذه الفتاة حتى أخطبها لك يا بني؟
فلما ذهبا، ورأى الأب تلك البنت أعجب هو بها، فقال لابنه: اسمع يا بني، إن هذه الفتاة ليست من مستواك وأنت لا تصلح لها، فمثل هذه الفتاة يستحقها رجل له خبرة في الحياة وتعتمد عليه مثلي.
اندهش الولد لكلام أبيه وقال له: كلا يا أبي، بل أنا وليس أنت.
فتخاصما، وذهبا إلى مركز الشرطة ليحلوا لهم المشكلة، وعندما قصّا للضابط قصتهما، قال لهما: أحضرا الفتاة لكي نسألها من تريد الأب أو الولد. فلما رآها الضابط انبهر بحسنها وفتنته، وقال لهما: هذه لا تصلح لكما، بل تصلح لشخص مرموق في البلد مثلي.
وتخاصم الثلاثة وذهبوا إلى الوزير، وعندما رآها الوزير قال: هذه لا يتزوجها إلا الوزراء مثلي.
وأيضًا تخاصموا عليها حتى وصل الأمر إلى رئيس البلدة، وعندما حضروا قال: أنا سأحل لكم المشكلة، أحضروا الفتاة، فلما رآها رئيس البلدة قال: بل هذه لا يتزوجها إلا قائد مثلي.
وتجادلوا جميعًا، ثم قالت الفتاة: أنا عندي الحل. سوف أركض وأنتم تركضون خلفي، والذي يمسكني أولاً أنا من نصيبه.
فوافقوا وبدأ السباق والجري خلف الفتاة، وركضت الفتاة وركض الخمسة خلفها، الشاب، والأب، والضابط والوزير، ورئيس البلدة. تركوا كل المتع التي يمرون عليها وكل طيبات الحياة، وكان هدفهم الفتاة فقط.
وفجأة، وهم يركضون خلفها سقط الخمسة في حفرة عميقة، ثم نظرت إليهم الفتاة من أعلى، وقالت: هل أدركتم من أنا؟ أنا الدنيا، أنا التي يجري خلفي جميع الناس، ويتسابقون للحصول عليّ، ويلهون عن دينهم ودنياهم من أجل اللحاق بي، حتى يقعوا في القبر ولا يفوز بي أحد.
ولا أعتقد أن جدّي كان يقصد أن يزهد الناس في الدنيا تمامًا، فما خُلقت الدنيا وما خُلق البشر إلا ليعيشوا ويستعمروا هذه الدنيا ويبتكروا ويستمتعوا بقدر ما يتاح لهم، ولكن هذه القصة ذكرتني ما نعرفه في التنمية البشرية بـ(عجلة توازن الحياة)، فما هذه العجلة؟ ولماذا سميت عجلة؟
ذهبت للبحث عن المصدر الأصلي لهذه العجلة ومن ابتكرها، إلا أني لم أجد صاحب الفكرة ومخترعها، ولكن الذي يهمني هنا تعريف هذه العجلة وكيفية استخدامها أمام فكرة طغيان الدنيا.
العجلة، كاسمها، هي دائرة مقسمة من المركز إلى ثمانية أقسام؛ وهي كالتالي:
1- الروحانيات ومدى القرب من الله: ما مدى تناغمنا مع معتقداتنا؟ هل نمارس واجباتنا الدينية باستمرار وبصورة منتظمة؟ هل نشعر بوجود أي مشكلة روحانية لدينا؟
2- الصحة الجسمية: ما النظام الغذائي الذي نتبعه بشكلٍ عام؟ هل لدينا أي رغبة في تعديل طريقة تناولنا للطعام؟ كيف نصف شعورنا خلال اليوم؟ هل نحصل على قدر جيد من النوم؟ هل نمارس أي تمرينات رياضية؟
3- العلاقات الأسرية والمجتمعية: هل لدينا أسرة أو أصدقاء مقربون؟ هل نخصص جزءًا من يومنا لهم؟ هل نقضي وقتًا ممتعًا عندما يأتي هذا الجزء في اليوم؟ هل يسهل علينا التواصل مع أفراد أسرتنا الصغيرة والكبيرة؟ هل نشعر بالرضا عن تلك العلاقات التي نملكها في حياتنا؟
4- الإبداع والجوانب العقلية: هل لدينا طريقة نعبّر بها عن الإبداع؟ هل نستخدم هذه الطريقة بقدرٍ جيد في حياتنا؟ هل لدينا رضا عن قدراتنا الإبداعية؟ هل لدينا المقدرة على حل المشكلات باستخدام أساليب التفكير الإبداعي؟
5- تطوير الذات: هل نعرف الأشياء التي نرغب في تطويرها لدينا؟ هل نمارس أنشطة تساعدنا على التطور الشخصي بالفعل؟ هل نشعر بالرضا عن التطور الشخصي في الفترة الأخيرة؟
6- الأمور المهنية والمالية: هل نشعر بالرضا عن وضعنا المهني الآن؟ هل هذه هي الوظيفة التي نحلم بها أم نرغب في تبديل مسارنا؟ هل نملك وضعًا ماليًا جيدًا يشعرنا بالأمان المالي؟
7- الرؤية الشاملة للحياة: ما مقدار سعادتنا بالاتجاه الذي نسير به في حياتنا الآن؟ هل نملك رؤية واضحة لمستقبلنا؟ هل نشعر بالرضا عن الخطوات التي نقوم بها للوصول إلى هذه الرؤية؟
8- الحالة العاطفية الجيدة: هل نشعر بالتوازن العاطفي في حياتنا؟ كيف يمكننا التعامل مع مشاعرنا؟ وكيف نفهم الأشياء التي نمر بها المتعلقة بعواطفنا؟
ربما تختلف بعض من تلك النقاط بحسب المراجع والأدبيات، إلا أنها في العموم تقسم بهذا الشكل. في بعض الأحيان يقوم بعض الناس بتحديد 6 مجالات فقط، وذلك لصعوبة تحديد المجالات بسهولة في البداية، إلى جانب رغبتهم في التركيز على هذه الجوانب فقط. في النهاية يعود الأمر إلى اختيار الشخص نفسه، لكن الأساس هو ثمانية، لمنح المرء تركيزًا على أكبر قدر من الجوانب الأكثر أهمية في حياته، لا مجرد فقط الاختيار لكتابة العجلة الخاصة بنا.
وبالطبع فإن تحديد المجالات الخاصة بالإنسان نفسه يتم بحسب الوضع الذي يعيشه، فالطالب مثلاً إذا كان مازال في مرحلة الدراسة، أيًا يكن مستوى الدراسة، ثانوية أو جامعة أو دراسات عليا، سيحتاج إلى تخصيص جزء للتعليم، وإن كان المرء متزوجًا فسيكون لديه جزء خاص بالعائلة، وهكذا. ومع الوقت يمكنك تغيير هذه الأشياء وفقًا للوضع الحالي.
عمومًا، لنواصل في شرح العجلة.. إن كل قسم يبدو وكأنه مثلث، يقسم إلى 10 درجات، متراصة مع بعضها البعض.
والآن، بعد تحديد مجالات الحياة الأكثر أهمية بالنسبة لنا، فإننا بحاجة إلى تحديد درجة رضانا في كل مجال منها، فأنت لديك دائرة، وفي نهاية كل حافة خارجية هناك اسم مجال في الحياة، ومركز العجلة يعني درجة رضاك هي 0%، والحافة الخارجية هي 100%.
خذ وقتك للتفكير جيدًا، وحدّد بعد ذلك درجة رضاك الحقيقية، تذكّر هذه العجلة الخاصة بك، فلن يراها أحد، وبالتالي ليس المطلوب هو إقناع ذاتك بأنّ كل شيء يسير على ما يرام، لكن حاول الوصول إلى الوضع الأقرب حقًا للواقع. بعد الانتهاء من تسجيل النقاط، كل نقطة في موضعها وفقًا لدرجة رضاك، يمكنك الوصل بينهم جميعًا في دائرة. الشكل النهائي الذي يظهر لك يمثل العجلة الخاصة بك، بالطبع ربما تشعر بأنّه شكل عشوائي، لكنّه يعبّر عن واقع حياتك أنت بالفعل، وعلى الأغلب لن تتشابه عجلتك مع أحد، وهذه ميزتها، أنّها تساعد كل فرد في تحديد أهداف ذات مغزى لحياته.
ومن المحتمل أن تجد صعوبة في تحديد درجة الرضا عن كل مجال، فمن المتوقع المبالغة في تقدير المجالات إما بالإيجاب وإما بالسوء. لذلك، فإنه من الأفضل في هذه الحالة أن تبدأ في وضع أسئلة ترتبط بالمجالات التي حددتها، للإجابة عنها حتى تساعدك في تكوين الصورة النهائية.
وفي النهاية سوف تجد عجلتك متركزة في مجال إذ قد يبلغ رضاك عنها حوالي 80%، بينما في مجال آخر قد تصل درجة الرضا إلى 40%، وهكذا.. لذلك ستكون عجلتك عرجاء ولا تستطيع أن تسير بها، فكيف إذن تعدل من درجات عجلتك حتى تسير بصورة منتظمة؟
إليك بعض الأمور التي تحسب من توازن عجلة الحياة، مثلاً:
1- الصحة الجسمية؛ التمرين لمدة 10 دقائق يوميًا، مع زيادة عدد الدقائق في نهاية كل شهر. تناول طعام صحي؛ والحرص على شرب 5 أكواب من المياه يوميًا على الأقل.
2- الروحانيات والقرب إلى الله، الالتزام بالصلاة في أوقاتها المحددة، وتضمين المزيد من الممارسة الروحية وفقًا لإتاحتها (صوم، عمرة، .. الخ).
3- العلاقات الأسرية والمجتمعية؛ تحديد الأشخاص المقرّبين، والحرص على الحديث معهم من حين لآخر، والخروج مع الأصدقاء المقربين أسبوعيًا مرة واحدة على الأقل، الاجتماع مع العائلة، وقضاء وقت ممتع، بعيدًا عن الحياة التقليدية، مرة واحدة أسبوعيًا على الأقل.
4- الإبداع والجوانب العقلية؛ البحث عن طرق مختلفة للإبداع. والتدرب باستمرار على الطريقة المفضلة لك للتعبير عن الإبداع، وتخصيص وقت ثابت في الأسبوع لفعل ذلك عدة مرات. البحث عن أشخاص مبدعين في مجالك أو في المجالات الأخرى، وتكوين علاقات معهم، والمشاركة في مجتمعاتهم لتنمية مهاراتك.
5- تطوير الذات؛ قراءة كتاب واحد في تطوير الذات شهريًا. المشاركة في دورة تدريبية على الإنترنت مرة واحدة شهريًا على الأقل. ممارسة الاختبارات التي تساعدك على تعريف نوع الشخصية، ثم بعد ذلك تطوير شخصيتك بناءً على النتائج.
6- الأمور المهنية والمالية؛ الحصول على ترقية في العمل، توفير جزء من الراتب الشهري للمستقبل، الحصول على درجة تعليمية أعلى مثل الماجستير.
7- الرؤية الشاملة للحياة؛ وضع رؤية لما ترغب بتحقيقه في الحياة حقًا. مراجعة تقدمك شهريًا، لمعرفة مقدار التغيرات التي تحدث معك. الخروج من منطقة الراحة، واكتشاف المزيد من الفرص المناسبة لحياتك.
8- الحالة العاطفية الجيدة؛ ممارسة الرعاية الذاتية 10 دقائق يوميًا على الأقل. محاوطة ذاتك بأشخاص إيجابيين في طريقة تفكيرهم.
هكذا، حتى تسير عجلة حياتنا بطريقة منتظمة متساوية، وخاصة أننا في بداية رمضان حيث يمكن أن نبدأ من هنا دائمًا.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك