لم يبدأ الحق سبحانه وتعالى وحيه المقدس بأية عبادة من العبادات كالصلاة أو الزكاة، أو ما شابههما لكنه بدأه بفعل حضاري هو كلمة: «اقرأ»، وهذا الفعل له ما بعده من تجليات، وعطاء ومنح، قال تعالى في أول اتصال بين السماء والأرض: «اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم(4) علم الإنسان ما لم يعلم (5) سورة العلق.
هذه البداية العظيمة والجليلة توحي بمكانة العلم وتحصيل المعرفة، وأنها سابقة على كل تكليف، بل ربما لا نكون مغالين إذا عددنا الأمر بالقراءة أول تكليف عبادي كلف الحق به سبحانه عباده المؤمنين، ونظن أنه لا مجال هنا إلى أن نتهم بالمبالغة، أو حمل الكلام أو هذا الرأي على أكثر مما يحتمل، وذلك حين نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: «وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين» البقرة / 31 .
إذًا، فقولنا إن كلمة «اقرأ» هي أول تكليف من الله تعالى لعباده المؤمنين دليله أن الملائكة لم يؤمروا بالسجود لآدم (عليه السلام) إلا من بعد ما علمه الله تعالى الأسماء كلها، قال تعالى: «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين» البقرة / 34.
إذًا، فقد استحق آدم (عليه السلام) بالعلم هذه المكانة التي ميزته عن الملائكة. ولقد استلهمت منها الحضارة الإسلامية أسسها ومقوماتها ونرى ذلك واضحا في ارتباط العلم بالأخلاق في قوله تعالى: «ن والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربك بمجنون (2) وإن لك لأجرًا غير ممنون (3) وإنك لعلى خلق عظيم (4) سورة القلم. ولقد سبق أن أشرنا إلى احتفاء الحق سبحانه وتعالى بكلمة «اقرأ» كمفتاح لآفاق المعرفة، وأصول العلوم التي علم الله تعالى الإنسان مفاتيحها حين قال سبحانه: «وعلم آدم الأسماء كلها» البقرة /31. وعندما نتساءل لماذا بدأ الحق سبحانه وتعالى وحيه المبارك بهذه الكلمة «اقرأ» ولَم يبدأه بعبادة أخرى؟ نقول: لأن جميع العبادات، أو معظمها لها شروط صحة، وشروط فساد، ولا يمكن أن يؤدي المسلم ما فرض عليه من تكاليف وهو يجهل شروط صحتها وفسادها، وهذا لن يتأتى له إلا بالعلم، وتحصيل هذه العلوم يبدأ بكلمة «اقرأ».
إذًا، فكلمة «اقرأ» ليست كلمة عادية، أو هي من نافلة الفعل أو القول، بل هي كلمة مباركة قامت عليها النهضة العلمية التي كانت من أسس الحضارة الإسلامية في عصورها المزدهرة.
إذًا، فكلمة «اقرأ» التي كررناها ولا نزال نكررها هي مفتاح جميع العلوم، ويكفي أن نقوم بجولة في كتاب الإسلام الخالد (القرآن الكريم) لندرك من دون عناء ما لهذه الكلمة المباركة من عطاء لا يقف عند حد، وليس له نهاية، يقول تعالى: «قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا» الكهف / 109.
وقال جل جلاله : «ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم» لقمان / 27.
تصور عزيزي القارئ.. ولن أقول عزيزي المسلم لأن الخطاب في هذه الآية وفِي كثير مثلها ليس مختصًا بالمسلمين وحدهم، بل هو خطاب عام لجميع الناس المؤمن منهم وغير المؤمن وذلك لأنه خطاب إلى العقل الراشد الذي يستوي فيه المسلم وغير المسلم.
إذًا، فالدعوة إلى العلم والتفقه فيه دعوة عامة لمن كان له قلب راشد وألقى السمع وهو شهيد، ولنتصور عزيزي القارئ جميع الأشجار أقلامًا، وجميع البحار مدادًا، ثم تأمل، وتدبر الارتباط الوثيق بين كلمة مداد، وكلمة إمداد، المداد هو المادة التي تقيد بها العلوم والمعارف، والإمداد يفيد الاستمرارية في رفد هذه الأقلام بالمادة أو بالمداد الذي يجعلها فاعلة، ومستمرة في العطاء، وحين نعلم أن الكلام صفة من صفات الخالق سبحانه وتعالى ندرك عظمة هذه الكلمات التي لا حدود لعطائها أبدا، كل ذلك يشعرنا بعظمة القلم كأداة لتقييد العلوم والمعارف، ثم إطلاقها عندما يحين زمانها، ويأتي أوانها، وسيبقى الكتاب هو المصدر الأساس لتحصيل المعارف، واكتناز التجارب والخبرات مهما تقدمت الوسائل.. وسائل وأدوات تحصيل العلوم واستعادتها وقت الحاجة إليها، من هنا ندرك السر الكامن وراء اختيار الكتاب ليكون المعجزة الباقية والدائمة للرسالة الخاتمة.. رسالة الإسلام، ومن أجل بقاء هذه المعجزة، وديمومة عطائها تعهد الحق سبحانه بحفظها، فقال تعالى: «إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر / 9) وتعهد جل جلاله بصيانتها من أن تعبث بها الأيدي الخبيثة أو تلوث صفاءها ونقاءها النفوس المريضة، فقال سبحانه وتعالى: « ..وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد» (42) فصلت.
وبعد، فإذا كان هذا عطاء كلمة مباركة واحدة، فما ظنكم بجميع كلمات القرآن العظيم التي قال عنها الحق سبحانه بأنها لن تنفد مهما غرف منها العلماء، وأبحر فيها المفكرون بعقولهم الراجحة الرشيدة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك