العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

«إقرأ..» فعل حضاري!

بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح

الأحد ٢٦ مارس ٢٠٢٣ - 02:00

لم‭ ‬يبدأ‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬وحيه‭ ‬المقدس‭ ‬بأية‭ ‬عبادة‭ ‬من‭ ‬العبادات‭ ‬كالصلاة‭ ‬أو‭ ‬الزكاة،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬شابههما‭ ‬لكنه‭ ‬بدأه‭ ‬بفعل‭ ‬حضاري‭ ‬هو‭ ‬كلمة‭: ‬‮«‬اقرأ‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬الفعل‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬بعده‭ ‬من‭ ‬تجليات،‭ ‬وعطاء‭ ‬ومنح،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬اتصال‭ ‬بين‭ ‬السماء‭ ‬والأرض‭: ‬‮«‬اقرأ‭ ‬باسم‭ ‬ربك‭ ‬الذي‭ ‬خلق‭ (‬1‭) ‬خلق‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬علق‭ (‬2‭) ‬اقرأ‭ ‬وربك‭ ‬الأكرم‭ (‬3‭) ‬الذي‭ ‬علم‭ ‬بالقلم‭(‬4‭) ‬علم‭ ‬الإنسان‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يعلم‭ (‬5‭) ‬سورة‭ ‬العلق‭.‬

هذه‭ ‬البداية‭ ‬العظيمة‭ ‬والجليلة‭ ‬توحي‭ ‬بمكانة‭ ‬العلم‭ ‬وتحصيل‭ ‬المعرفة،‭ ‬وأنها‭ ‬سابقة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬تكليف،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬نكون‭ ‬مغالين‭ ‬إذا‭ ‬عددنا‭ ‬الأمر‭ ‬بالقراءة‭ ‬أول‭ ‬تكليف‭ ‬عبادي‭ ‬كلف‭ ‬الحق‭ ‬به‭ ‬سبحانه‭ ‬عباده‭ ‬المؤمنين،‭ ‬ونظن‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نتهم‭ ‬بالمبالغة،‭ ‬أو‭ ‬حمل‭ ‬الكلام‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يحتمل،‭ ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬نقرأ‭ ‬قول‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭: ‬‮«‬وعلم‭ ‬آدم‭ ‬الأسماء‭ ‬كلها‭ ‬ثم‭ ‬عرضهم‭ ‬على‭ ‬الملائكة‭ ‬فقال‭ ‬أنبئوني‭ ‬بأسماء‭ ‬هؤلاء‭ ‬إن‭ ‬كنتم‭ ‬صادقين‮»‬‭ ‬البقرة‭ / ‬31‭ .‬

إذًا،‭ ‬فقولنا‭ ‬إن‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬اقرأ‮»‬‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬تكليف‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬لعباده‭ ‬المؤمنين‭ ‬دليله‭ ‬أن‭ ‬الملائكة‭ ‬لم‭ ‬يؤمروا‭ ‬بالسجود‭ ‬لآدم‭ (‬عليه‭ ‬السلام‭) ‬إلا‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬علمه‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬الأسماء‭ ‬كلها،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬وإذ‭ ‬قلنا‭ ‬للملائكة‭ ‬اسجدوا‭ ‬لآدم‭ ‬فسجدوا‭ ‬إلا‭ ‬إبليس‭ ‬أبى‭ ‬واستكبر‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الكافرين‮»‬‭ ‬البقرة‭ / ‬34‭.‬

إذًا،‭ ‬فقد‭ ‬استحق‭ ‬آدم‭ (‬عليه‭ ‬السلام‭) ‬بالعلم‭ ‬هذه‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬ميزته‭ ‬عن‭ ‬الملائكة‭. ‬ولقد‭ ‬استلهمت‭ ‬منها‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬أسسها‭ ‬ومقوماتها‭ ‬ونرى‭ ‬ذلك‭ ‬واضحا‭ ‬في‭ ‬ارتباط‭ ‬العلم‭ ‬بالأخلاق‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬ن‭ ‬والقلم‭ ‬وما‭ ‬يسطرون‭ (‬1‭) ‬ما‭ ‬أنت‭ ‬بنعمة‭ ‬ربك‭ ‬بمجنون‭ (‬2‭) ‬وإن‭ ‬لك‭ ‬لأجرًا‭ ‬غير‭ ‬ممنون‭ (‬3‭) ‬وإنك‭ ‬لعلى‭ ‬خلق‭ ‬عظيم‭ (‬4‭) ‬سورة‭ ‬القلم‭. ‬ولقد‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أشرنا‭ ‬إلى‭ ‬احتفاء‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬بكلمة‭ ‬‮«‬اقرأ‮»‬‭ ‬كمفتاح‭ ‬لآفاق‭ ‬المعرفة،‭ ‬وأصول‭ ‬العلوم‭ ‬التي‭ ‬علم‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬الإنسان‭ ‬مفاتيحها‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬سبحانه‭: ‬‮«‬وعلم‭ ‬آدم‭ ‬الأسماء‭ ‬كلها‮»‬‭ ‬البقرة‭ /‬31‭. ‬وعندما‭ ‬نتساءل‭ ‬لماذا‭ ‬بدأ‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬وحيه‭ ‬المبارك‭ ‬بهذه‭ ‬الكلمة‭ ‬‮«‬اقرأ‮»‬‭ ‬ولَم‭ ‬يبدأه‭ ‬بعبادة‭ ‬أخرى؟‭ ‬نقول‭: ‬لأن‭ ‬جميع‭ ‬العبادات،‭ ‬أو‭ ‬معظمها‭ ‬لها‭ ‬شروط‭ ‬صحة،‭ ‬وشروط‭ ‬فساد،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬المسلم‭ ‬ما‭ ‬فرض‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬تكاليف‭ ‬وهو‭ ‬يجهل‭ ‬شروط‭ ‬صحتها‭ ‬وفسادها،‭ ‬وهذا‭ ‬لن‭ ‬يتأتى‭ ‬له‭ ‬إلا‭ ‬بالعلم،‭ ‬وتحصيل‭ ‬هذه‭ ‬العلوم‭ ‬يبدأ‭ ‬بكلمة‭ ‬‮«‬اقرأ‮»‬‭.‬

إذًا،‭ ‬فكلمة‭ ‬‮«‬اقرأ‮»‬‭ ‬ليست‭ ‬كلمة‭ ‬عادية،‭ ‬أو‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬نافلة‭ ‬الفعل‭ ‬أو‭ ‬القول،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬كلمة‭ ‬مباركة‭ ‬قامت‭ ‬عليها‭ ‬النهضة‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أسس‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬عصورها‭ ‬المزدهرة‭.‬

إذًا،‭ ‬فكلمة‭ ‬‮«‬اقرأ‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كررناها‭ ‬ولا‭ ‬نزال‭ ‬نكررها‭ ‬هي‭ ‬مفتاح‭ ‬جميع‭ ‬العلوم،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نقوم‭ ‬بجولة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الإسلام‭ ‬الخالد‭ (‬القرآن‭ ‬الكريم‭) ‬لندرك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬عناء‭ ‬ما‭ ‬لهذه‭ ‬الكلمة‭ ‬المباركة‭ ‬من‭ ‬عطاء‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬حد،‭ ‬وليس‭ ‬له‭ ‬نهاية،‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬قل‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬البحر‭ ‬مدادًا‭ ‬لكلمات‭ ‬ربي‭ ‬لنفد‭ ‬البحر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنفد‭ ‬كلمات‭ ‬ربي‭ ‬ولو‭ ‬جئنا‭ ‬بمثله‭ ‬مددا‮»‬‭ ‬الكهف‭ / ‬109‭.‬

وقال‭ ‬جل‭ ‬جلاله‭ : ‬‮«‬ولو‭ ‬أنما‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬شجرة‭ ‬أقلام‭ ‬والبحر‭ ‬يمده‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬سبعة‭ ‬أبحر‭ ‬ما‭ ‬نفدت‭ ‬كلمات‭ ‬الله‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬عزيز‭ ‬حكيم‮»‬‭ ‬لقمان‭ / ‬27‭. ‬

تصور‭ ‬عزيزي‭ ‬القارئ‭.. ‬ولن‭ ‬أقول‭ ‬عزيزي‭ ‬المسلم‭ ‬لأن‭ ‬الخطاب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭ ‬وفِي‭ ‬كثير‭ ‬مثلها‭ ‬ليس‭ ‬مختصًا‭ ‬بالمسلمين‭ ‬وحدهم،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬خطاب‭ ‬عام‭ ‬لجميع‭ ‬الناس‭ ‬المؤمن‭ ‬منهم‭ ‬وغير‭ ‬المؤمن‭ ‬وذلك‭ ‬لأنه‭ ‬خطاب‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬الراشد‭ ‬الذي‭ ‬يستوي‭ ‬فيه‭ ‬المسلم‭ ‬وغير‭ ‬المسلم‭.‬

إذًا،‭ ‬فالدعوة‭ ‬إلى‭ ‬العلم‭ ‬والتفقه‭ ‬فيه‭ ‬دعوة‭ ‬عامة‭ ‬لمن‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬قلب‭ ‬راشد‭ ‬وألقى‭ ‬السمع‭ ‬وهو‭ ‬شهيد،‭ ‬ولنتصور‭ ‬عزيزي‭ ‬القارئ‭ ‬جميع‭ ‬الأشجار‭ ‬أقلامًا،‭ ‬وجميع‭ ‬البحار‭ ‬مدادًا،‭ ‬ثم‭ ‬تأمل،‭ ‬وتدبر‭ ‬الارتباط‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬كلمة‭ ‬مداد،‭ ‬وكلمة‭ ‬إمداد،‭ ‬المداد‭ ‬هو‭ ‬المادة‭ ‬التي‭ ‬تقيد‭ ‬بها‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف،‭ ‬والإمداد‭ ‬يفيد‭ ‬الاستمرارية‭ ‬في‭ ‬رفد‭ ‬هذه‭ ‬الأقلام‭ ‬بالمادة‭ ‬أو‭ ‬بالمداد‭ ‬الذي‭ ‬يجعلها‭ ‬فاعلة،‭ ‬ومستمرة‭ ‬في‭ ‬العطاء،‭ ‬وحين‭ ‬نعلم‭ ‬أن‭ ‬الكلام‭ ‬صفة‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬الخالق‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬ندرك‭ ‬عظمة‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لعطائها‭ ‬أبدا،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يشعرنا‭ ‬بعظمة‭ ‬القلم‭ ‬كأداة‭ ‬لتقييد‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف،‭ ‬ثم‭ ‬إطلاقها‭ ‬عندما‭ ‬يحين‭ ‬زمانها،‭ ‬ويأتي‭ ‬أوانها،‭ ‬وسيبقى‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬المصدر‭ ‬الأساس‭ ‬لتحصيل‭ ‬المعارف،‭ ‬واكتناز‭ ‬التجارب‭ ‬والخبرات‭ ‬مهما‭ ‬تقدمت‭ ‬الوسائل‭.. ‬وسائل‭ ‬وأدوات‭ ‬تحصيل‭ ‬العلوم‭ ‬واستعادتها‭ ‬وقت‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬ندرك‭ ‬السر‭ ‬الكامن‭ ‬وراء‭ ‬اختيار‭ ‬الكتاب‭ ‬ليكون‭ ‬المعجزة‭ ‬الباقية‭ ‬والدائمة‭ ‬للرسالة‭ ‬الخاتمة‭.. ‬رسالة‭ ‬الإسلام،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬بقاء‭ ‬هذه‭ ‬المعجزة،‭ ‬وديمومة‭ ‬عطائها‭ ‬تعهد‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬بحفظها،‭ ‬فقال‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬إنَّا‭ ‬نحن‭ ‬نزلنا‭ ‬الذكر‭ ‬وإنا‭ ‬له‭ ‬لحافظون‮»‬‭ (‬الحجر‭ / ‬9‭) ‬وتعهد‭ ‬جل‭ ‬جلاله‭ ‬بصيانتها‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تعبث‭ ‬بها‭ ‬الأيدي‭ ‬الخبيثة‭ ‬أو‭ ‬تلوث‭ ‬صفاءها‭ ‬ونقاءها‭ ‬النفوس‭ ‬المريضة،‭ ‬فقال‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭: ‬‮«‬‭ ..‬وإنه‭ ‬لكتاب‭ ‬عزيز‭ (‬41‭) ‬لا‭ ‬يأتيه‭ ‬الباطل‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬خلفه‭ ‬تنزيل‭ ‬من‭ ‬حكيم‭ ‬حميد‮»‬‭ (‬42‭) ‬فصلت‭.‬

وبعد،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬عطاء‭ ‬كلمة‭ ‬مباركة‭ ‬واحدة،‭ ‬فما‭ ‬ظنكم‭ ‬بجميع‭ ‬كلمات‭ ‬القرآن‭ ‬العظيم‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬عنها‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬بأنها‭ ‬لن‭ ‬تنفد‭ ‬مهما‭ ‬غرف‭ ‬منها‭ ‬العلماء،‭ ‬وأبحر‭ ‬فيها‭ ‬المفكرون‭ ‬بعقولهم‭ ‬الراجحة‭ ‬الرشيدة‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا