مع تدهور المشهد الأمني العالمي في ظل استمرار حرب أوكرانيا، وتصاعد المنافسة بين القوى العظمى، وعودة نظام عالمي متعدد الأقطاب؛ فإن التجارة العالمية للأسلحة، وتكنولوجيا الدفاع والبنية التحتية الداعمة، تعد بمثابة معيار مفيد لقياس الدول التي تعزز قدراتها الدفاعية، أو توسع شبكاتها الأمنية الدولية مع شركاء جدد في إطار بحثها عن فوائد جيوستراتيجية طويلة الأجل.
وفي أحدث مسح لـ«معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام»، عن عام 2022، والذي يتتبع صادرات وواردات الأسلحة العالمية، ويصدر تقريرًا سنويًا بهذا الشأن؛ وثق «زيادة كبيرة» في عمليات نقل الأسلحة في أوروبا، بالإضافة إلى ارتفاع الواردات إلى دول الخليج. ورأى التقرير، أن «حرب أوكرانيا سيكون لها تداعيات كبيرة على تجارة الأسلحة المستقبلية على مستوى العالم»، مع زيادة واردات الأسلحة الأوروبية والدفاع والإنفاق، وتعثر علاقات التسلح لروسيا مع آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا؛ لإعطائها الأولوية لاحتياجاتها العسكرية، والشك أيضًا في جودة أسلحتها على خلفية الحرب، ونمو مجموعة من الموردين العالميين، مثل فرنسا وكوريا الجنوبية.
ومما لا شك فيه أن «الحرب الأوكرانية»، كانت «سببا مباشرا»، في زيادة صادرات وواردات الأسلحة العالمية، وزيادة الإنفاق الدفاعي. ومع تلقي «كييف»، أكثر من 40 مليار دولار من المساعدات العسكرية من «الولايات المتحدة» وحدها، بالإضافة إلى مساعدة مالية كبيرة وأسلحة من «الاتحاد الأوروبي»، و«المملكة المتحدة»، و«فرنسا»، و«ألمانيا»، و«كندا»، و«بولندا» وغيرها، سجل «المعهد»، كيف باتت أوكرانيا «مستوردًا رئيسيًا للأسلحة عام 2022».
وتأكيدا لذلك، أوضح «المسح»، أن مكافحة «كييف»، للعملية العسكرية الروسية، جعلها «ثالث أكبر مستورد للأسلحة عام 2022»، حيث قدمت أمريكا 35% من واردات الأسلحة، تليها بولندا 17%، وألمانيا 11%، والمملكة المتحدة 10% وفي حين تم تزويد قواتها من قبل الدول الغربية بأكثر من 7000 صاروخ مضاد للدبابات، و5000 صاروخ مدفعي موجه، و228 قطعة مدفعية؛ فقد تم تأكيد أن معظم الأسلحة كانت «من المخزونات الحالية». وعلى الرغم من موافقة الدول الغربية تدريجيًا على تزويدها بدبابات قتال متقدمة في أوائل عام 2023، فقد تمت الإشارة إلى أنهم «لا يزالون غير مستعدين لتسليم أسلحة ذات قدرة هجومية بعيدة المدى».
علاوة على ذلك، أثرت الحرب في الموقف الدفاعي الأوروبي. وأشار «كريستوف هاسلباخ»، من موقع «دويتشه فيله»، إلى أنه «بينما ينزع بقية العالم أسلحته ببطء، تعيد أوروبا تسليح نفسها». وأكد «المعهد»، أنه «منذ اشتعال الحرب زاد عدد الدول الأوروبية التي استوردت أسلحة بشكل كبير». وبالإشارة إلى اتفاقية لشراء 250 دبابة قتالية من «واشنطن»؛ أوضح «ماثيو كارنيتشنج»، في صحيفة «بوليتيكو»، أن «بولندا»، ترتقي الآن لتصبح «القوة العسكرية العظمى القادمة في أوروبا»، مدعومة بزيادة إنفاقها الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة حجم قواتها المسلحة إلى 300.000 فرد. بالإضافة إلى تعهد «هولندا»، بشراء أنظمة دفاع جوي متنقلة ومدفعية صاروخية جديدة، وموافقة «برلين» على شراء طائرات مقاتلة أمريكية من طراز (اف 35).
ومع ذلك، أوضح «التقرير»، أن زيادة الإنفاق الدفاعي الغربي، وشراء الأسلحة الناجم عن حرب أوكرانيا، تتناسب مع نمط زيادة واردات الأسلحة التي حدثت قبلها. ومع تسجيل «بيئة أمنية متدهورة في المنطقة» قبل فبراير 2022 بوقت طويل، فإن أعضاء الناتو قد زادوا من وارداتهم من الأسلحة، بنسبة 65% بين الفترتين (2013-2017)، و(2018-2022)، مع تسجيل «المملكة المتحدة»، أكبر مستورد خلال هذه الفترة الزمنية الأخيرة.
وبالنسبة إلى عمليات نقل الأسلحة والإنفاق العسكري في الشرق الأوسط، أشار «المسح»، إلى أنه على الرغم من انخفاض إجمالي حجم واردات الأسلحة في المنطقة، بنسبة 8.8% بين الفترتين (2013-2017)، و(2018-22)، إلا أن «الهند»، و«الصين»، و«أستراليا»- من بين أكبر خمسة مستوردين للأسلحة في العالم في السنوات الأربع التي سبقت عام 2023.
وبين عامي 2018 و2022، استحوذ الشرق الأوسط على 31% من جميع واردات الأسلحة العالمية، ما جعله أعلى من أوروبا 16%، وأمريكا الشمالية والجنوبية 5.8%، وإفريقيا 5%، وفقط بعد آسيا ومنطقة أوقيانوسيا 4،1%. ولاحظ موقع «ميدل إيست آي»، كيف استوردت المنطقة أكثر من 260 طائرة متطورة و500 دبابة، و13 فرقاطة بين عامي 2018 و2022.
وفي مواجهة هذه الأمثلة، أشار «دانيال بوفي»، في صحيفة «الجارديان»، أن «الولايات المتحدة»، «تظل القوة العظمى عالميا في مبيعات الأسلحة». وأوضح «هارتونج»، كيف أنها تعد أكبر مصدر للأسلحة في العالم، وذلك للمرة 23 في السنوات الـ25 الماضية»، بينما انضمت إلى كل من روسيا، وفرنسا، والصين، وألمانيا، باعتبارها أكبر خمس دول مصدرة للأسلحة في العالم بين عامي 2018 و2022، لتمثل معها أكثر من ثلاثة أرباع التجارة العالمية. وبالفعل، تتفوق «واشنطن»، في حصتها في سوق الأسلحة العالمية. وارتفعت نسبتها من 33% في الفترة ما بين 2013-2017، إلى 40% في السنوات الأربع المتتالية. وعند النظر إلى توريد تلك الأسلحة لأكثر من 100 دولة؛ أشار «المعهد»، إلى أن هذا الرقم يعادل تقريبًا كل من روسيا وفرنسا مجتمعين.
وبشكل عام، لا تزال «الولايات المتحدة»، المُصدِّر الرئيسي للأسلحة في الشرق الأوسط، بإجمالي 54% من إجمالي الصادرات الدفاعية في الفترة ما بين عامي 2018-2022، مقارنة بأقرب منافسيها، مثل فرنسا (12%)، وروسيا (8.6%). انخفضت صادراتها إلى «تركيا»، من المرتبة السابعة في الفترة من 2013-2017، إلى المرتبة الـ27 في الفترة 2018-2022، بسبب «العلاقات المتوترة بين «واشنطن»، و«أنقرة».
وفي مقابل نمو حصة أمريكا من صادرات الأسلحة العالمية، تمت الإشارة إلى تقلص دور «روسيا»، بسبب الحرب الأوكرانية. وانخفضت النسبة المئوية لمبيعات الأخيرة من الأسلحة من 22% إلى 16% منذ عام 2013. وأشار «بوفي»، إلى أن العقوبات المفروضة عليها دوليًا، كانت «عائقًا أمام تنامي صادراتها العسكرية». وأكد «المعهد»، أنه في الفترة ما بين عامي 2018-2022، تم إرسال ما يقدر بنحو 17% من صادرات الأسلحة الروسية إلى الشرق الأوسط. وتم توجيه 31% من تلك الصادرات إلى الهند و23% إلى الصين.
ومع ذلك، فمنذ عام 2021، أصبح حجم شحنات موسكو إلى «الصين» «بمستوى أقل مما كان عليه في 2018-2019»، حيث تفضل الأخيرة الإنتاج المحلي بدلاً الواردات الأجنبية. وبدلاً من أن تستمر روسيا في تزويد الدول المتحالفة معها جيوسياسيًا بالأسلحة، سعت إلى الحصول على مساعدات عسكرية من دول أخرى، مثل الطائرات المسيرة المسلحة القادمة من إيران، والصواريخ والقذائف التي يُزعم أنها وردت من كوريا الشمالية.
علاوة على ذلك، رأى «هاسلباخ»، أن صادرات الأسلحة الصينية قد عانت أيضًا «هبوطًا»، خلال السنوات الأخيرة، حيث انخفضت نسبتها من 6.3% إلى 5.2% في السوق العالمية. وعلى الرغم من أن «المعهد»، قد أشار إلى أنها زودت 46 دولة بأسلحة ومعدات عسكرية في الفترة ما بين عامي 2018 - 2022، إلا أن أكثر من نصف تلك الصادرات ذهبت إلى «باكستان» وحدها. وأشار «التقرير»، إلى فشل «بكين»، بشكل مفاجئ» في «اقتحام بعض الأسواق الرئيسية للأسلحة، بما في ذلك الشرق الأوسط، بسبب منافسة البدائل الدفاعية الأمريكية والأوروبية المطروحة.
وبالنسبة إلى بقية دول العالم، تمت الإشارة إلى أنه في حين انخفضت صادرات الأسلحة من المملكة المتحدة، وإسبانيا، وإسرائيل، ما بين (2013-2017)، و(2018-2022)، فقد ارتفعت الحصة العالمية الخاصة بصادرات الأسلحة الفرنسية (من 7.1% إلى 11%)، ونظيراتها الإيطالية (2.5% إلى 3.8%)، وتركيا (0.6% إلى 1.1%)، وأستراليا (0.3% إلى 0.6%)، وبولندا (0.1% إلى 0.4%).
وفي ظل تحول السياسة الخارجية الغربية لتتكيف مع عودة نظام عالمي متعدد الأقطاب؛ ظهرت أدوار بارزة لكل من «فرنسا»، و«كوريا الجنوبية»، كلاعبين أساسيين في مجال تجارة الأسلحة العالمية. وبالإشارة إلى إرسال 30% من وارداتها من الأسلحة إلى «الهند»، خلال السنوات الخمس الماضية؛ أوضحت «إذاعة أوروبا الحرة»، أن «باريس»، تفوقت على «واشنطن»، لتكون ثاني أكبر مورد للسلاح إلى «نيودلهي». وأشار «المعهد»، إلى أن 34% من المبيعات العسكرية الفرنسية خلال الفترة ذاتها كانت إلى الشرق الأوسط. حيث إن 29% من واردات «الدوحة»، جاءت من فرنسا في الفترة بين عامي (2018 - 2022)، وتضمنت 36 طائرة مقاتلة جديدة الطراز.
ومع تطرق «بوفي»، إلى كيفية قيام «باريس»، بتحدي مكانة «موسكو» -باعتبارها ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم بعد «واشنطن»- وبأن بإمكانها التفوق عليها في غضون عقد من الزمن»؛ أوضح «كارنيتشنج»، أن زيادة صادراتها من الأسلحة نابع من رؤية الرئيس الفرنسي حول تعزيز السيادة والحكم الذاتي الاستراتيجي للدول الأوروبية؛ حيث يمكن للقارة أن تحمي نفسها بأسلحة «محلية».
أما بالنسبة إلى «كوريا الجنوبية»، فقد أشار التقرير إلى نمو صادراتها من الأسلحة في الفترة ما بين عامي (2013-2022)، بنسبة 74%، وكتب «كارنيتشنج»، أن تركيز معدلات الإنفاق العسكري الأخيرة في «بولندا»، اتجهت في معظمها إلى «سول»؛ حيث طلبت «وارسو»، بالفعل بين 10 مليارات دولار إلى 12 مليارا من صادراتها من الأسلحة، ويرجع ذلك إلى أن معداتها الدفاعية «أرخص من البدائل الأمريكية والأوروبية»، كما أنه يمكن إنتاجها «في وقت أقل لتلبية الاحتياجات الأمنية الطارئة. وعلى الرغم من امتلاكها صناعات متقدمة للأسلحة المتطورة -وكذلك اليابان- أشار «المعهد»، إلى أن كوريا الجنوبية نفسها لا تزال «تعتمد على واردات الأسلحة الأمريكية في بعض القطاعات الرئيسية.
على العموم، فإنه على الرغم من تنامي مكانة «فرنسا»، و«كوريا الجنوبية»، وتأثيرهما الدولي في سوق صادرات الأسلحة العالمية؛ فقد خلص تقرير المعهد إلى أن «الولايات المتحدة»، «ستظل إلى حد بعيد أكبر مصدر للأسلحة الرئيسية». ومع تورط «روسيا»، في حرب أوكرانيا، من المتوقع أن تنخفض حصتها في سوق الأسلحة العالمية بشكل كبير بسبب إعطائها الأولوية لاستخداماتها العسكرية.
ومع الإشارة إلى أن 87% من جميع صادرات الأسلحة خلال الفترة ما بين (2018-2022) مصدرها؛ إما من «الولايات المتحدة»، أو «أوروبا»، فليس من الصعب الاختلاف مع تقييم «هارتونج»، بأن المنافسة بين القوى العظمى في تجارة الأسلحة العالمية، باتت حاليًا «غير متوازنة للغاية»، وتصب في صالح الغرب، وقد تظل هذه الهيمنة عنصرًا أساسيًا في بنية ومنظومة الدفاع الدولي سنوات عديدة قادمة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك