تداعيات الغزو الأمريكي للعراق لن تنتهي أبداً، وستبقى معنا سنوات طويلة قادمة، بالرغم من انتهاء الحرب قبل عشرين عاماً. وهذه الانعكاسات التي نجمت عن الحرب العدوانية منذ بدء القصف الجوي في الثالث من مارس 2003، وبالتحديد أتحدثُ هنا عن الانعكاسات من الناحية البيئة الصحية، لم تنزل فقط على الشعب العراقي وأطفال العراق، وإنما نزلت أيضاً على الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في الغزو وأمضوا سنوات يحاربون الشعب العراقي.
أما بالنسبة إلى التأثيرات البيئية الصحية للغزو الأمريكي ودول الحلفاء للعراق على المواطنين العراقيين فقد كتبتُ عنها عدة مقالات، منها المقال المنشور في 12 أغسطس 2011 في صحيفة أخبار الخليج تحت عنوان: «غزو فيتنام والعراق والتداعيات البيئية والصحية»، والثاني في 29 أكتوبر 2012 تحت عنوان: «التشوه الخَلْقي للأطفال في العراق»، حيث تناولت فيهما الانعكاسات الصحية والبيئية لمعركة الفلوجة الدامية في العراق عامي 2003 و2004، والتي تعرضت للقصف الأمريكي والبريطاني بمختلف أنواع القنابل غير المسموح بها دوليا، كقنابل اليورانيوم المنضب أو المستنفد(depleted uranium)، والقنابل الفسفورية البيضاء الحارقة، وانعكاس انبعاث الملوثات المشعة والسامة من هذه القنابل على جسم العراقيين وانكشافها على هيئة مظاهر صحية غريبة، وأمراض مزمنة مستعصية على العلاج، مثل ازدياد أعداد المصابين بالسرطان، وارتفاع ولادة الأطفال المشوهين خَلْقياً والمصابين بإعاقات جسدية منذ الولادة، كتشوهات في القلب، وإعاقات في المخ وخلل في وظائف أجزاء المخ، وتشوهات في الأعضاء والأطراف، إضافة إلى ارتفاع تركيز الملوثات في مكونات البيئة المختلفة، مثل اليورانيوم، والزئبق، والرصاص. وأما المقال الثالث فقد نُشر في 10 من نوفمبر 2012 تحت عنوان: «اعتراف أمريكي بالجرائم البيئية في العراق»، ثم نشرتُ المقال في الرابع من ديسمبر 2020 وعنوانه: «تداعيات غزو الفلوجة باقية».
وأما الفئة الثانية التي تضررت وتدهورت صحتها سنوات طويلة عجاف فكانت فئة الجنود الأمريكيين ومن تحالف معهم على حدٍ سواء، وهذه الأسقام والحالات والأعراض الغامضة التي نزلت عليهم بُعيد انتهاء الحرب مازالوا يعانون منها حتى كتابة هذه السطور. فكما أن الحرب أثرت بيئياً وصحياً في الشعب العراقي فقد دمرت في الوقت نفسه الحالة الصحية الجسدية والعقلية والنفسية لآلاف من الجنود الأمريكيين.
وفي بدايات ظهور هذه الحالات المرضية الغريبة على الآلاف من الجنود الأمريكيين، أنكرت الحكومة الأمريكية كعادتها واقعية هذه الأعراض، كما فعلت بالنسبة إلى تعرض الجنود الأمريكيين للعميل البرتقالي في فيتنام وهو مبيد حشري استخدم لتدمير الغابات والأحراش في فيتنام، إضافة إلى تعرض الجنود الذين حاربوا في عملية درع الصحراء أثناء الاحتلال العراقي لدولة الكويت في يناير 1991، حيث أُصيب الآلاف منهم بمرضٍ جديد وغريب لم يعرفه الطب من قبل، وأُطلق عليه «مرض أو ظاهرة حرب الخليج» (Gulf War Syndrome)، وهذا المرض مازال يحير عقول أطباء أمريكا، فلم يحددوا حتى يومنا هذا أسباب تعرض الجنود لهذا المرض العصيب الغامض.
ولذلك لمدة سنوات لم تعترف الحكومة الأمريكية بإصابة هؤلاء الجنود بالمرض المزمن الناجم عن التعرض لخليط من الملوثات الكيميائية، والحيوية، والمشعة، فأُجريت العديد من التحقيقات والدراسات العلمية لإثبات أنه مرض خاص أصاب الجنود الذين حاربوا في العراق وأفغانستان. فقد نَشرتْ مجلة «ميليتري تايمز»(Military Times) تحقيقاً معمقاً في الثامن من نوفمبر 2008 تحت عنوان: «عديم الضرر أم خطر؟ يقول الجنود إن حرق المواد الكيميائية والمخلفات الطبية جعلتهم يعانون من المرض، ولكن المسؤولين ينكرون». فهذا التحقيق أوجد علاقة بين «حُفر الحرق» (burn pits) التي كانت موجودة في العراء في أكبر قاعدة عسكرية في العراق (Joint Base Balad)، والتي كان الجيش الأمريكي يقوم فيها في العراق وأفغانستان بحرق كل ما لديه من مخلفات طبية وبيولوجية وأعضاء بشرية تم بترها، ومخلفات خطرة وسامة، إضافة إلى القمامة التي كانت تحتوي على عبوات المياه البلاستيكية في هذه الحفر المفتوحة البدائية من دون اتخاذ أية إجراءات وقائية تحمي الجنود من جميع أنواع الملوثات التي كانت تنبعث منها مباشرة دون أية معالجة، ونتيجة لتعرض عدد كبير من الجنود لهذا الخليط المعقد والسام والمسرطن من الملوثات والدخان الأسود فقد أصيبوا بأعراض مرضية نادرة تتمثل في الصداع المزمن، وحساسية وحرقة في العينين والجهاز التنفسي، ومشكلات مزمنة في الجيوب الأنفية، والتهابات وجروح في الرئتين، إضافة إلى نوع نادر من سرطان الرئة.
كما أُجريت عدة دراسات علمية منهجية لإثبات مصدر وأسباب المرض، إضافة إلى إيجاد علاقة بين خدمة الجنود في العراق وأفغانستان والإصابة بهذا المرض التنفسي. فعلى سبيل المثال هناك دراسة تحت عنوان: «انكشاف جديد لمرض الربو بين الجنود الذين خدموا في العراق وأفغانستان» والمنشورة في سبتمبر 2010 في مجلة «وقائع حساسية الربو» (Allergy Asthma Proceeding) ، إضافة إلى الدراسة تحت عنوان: «أعراض الجهاز التنفسي التي تستلزم قياس التنفس بين الجنود المصابين في الرئة في العراق وأفغانستان»، والمنشورة في سبتمبر 2011 في مجلة «الطب المهني والبيئي» (Occupational and Environmental Medicine). وهذه الدراسات أكدت العلاقة بين هذه الأعراض المرضية التنفسية، أو حالات الربو الجديدة التي بدأت تنكشف منذ عام 2004، والتعرض للملوثات التي انطلقت من عملية حرق المخلفات الخطرة وغير الخطرة مع بعض في حفرة واحدة معرضة مباشرة للهواء الجوي.
وبعد سنوات طويلة وثقيلة، ومعاناة قاسية من الجنود وأسرهم استمرت أكثر من 13 عاماً، نالوا الاعتراف السياسي والرعاية الطبية والمالية الكاملة استناداً إلى «قانون الميثاق» (Pact Act) الذي وافق عليه الكونجرس ووقع عليه بايدن في العاشر من أغسطس 2022. ويهدف هذا القانون إلى مساعدة قدامي المحاربين والجنود الأمريكيين الذين حاربوا في العراق وأفغانستان وعددهم قرابة 200 ألف، وتعرضوا للملوثات أثناء الحرب، وبالتحديد الذين استنشقوا سموماً قاتلة انبعثت عند حرق المواد الكيميائية والبيولوجية والمشعة في الحفر المخصصة لجمع هذه المواد، حيث قال بايدن عند التوقيع على التشريع: «هذا القانون هو الأهم لأمتنا لمساعدة الملايين من المحاربين القدماء الذين تعرضوا لمواد سامة خلال خدماتهم في الجيش».
وجدير بالذكر فإن ما أصاب الأمريكيين من فساد صحي مزمن لأسباب كثيرة منها الملوثات التي انبعثت من حرق المخلفات في حُفر الحرق، قد أصاب أيضاً العراقيين الذين كانوا يعملون في القاعدة الأمريكية، أو الذين يسكنون بالقرب من القاعدة. وأجرتْ صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية تحقيقاً مفصلاً نُشر في 18 مارس 2023 تحت عنوان: «العدالة للمحاربين القدماء الأمريكيين للتعرض للحرق في الحفر المفتوحة. العراقيون تم نسيانهم»، حيث قامت بإجراء مقابلات شخصية مع المئات من العراقيين الذي أصابهم مرض الجنود الأمريكيين، سواء أثناء ممارسة أعمالهم اليومية في القاعدة، أو تعرضهم مباشرة للهواء الملوث من حرق المخلفات في الحفر في قراهم ومساكنهم عدة سنوات.
والآن وبعد أن حصل الجنود الأمريكيين على الاهتمام من حكومتهم، ولو بعد أكثر من عقد من المعاناة والألم الشديدين، فمتى سينال المواطن العراقي هذا الاهتمام من حكومته، أو من الحكومة الأمريكية التي تسببت في مرضهم؟
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك