مع حلول الذكرى العشرين لغزو العراق، زادت انتقادات المعلقين الغربيين للتدخل العسكري الذي قاده الرئيس الأمريكي –آنذاك- «جورج دبليو بوش»، و«ديك تشيني»، نائب الرئيس، و«دونالد رامسفيلد»، وزير الدفاع، و«كولن باول»، وزير الخارجية، و«توني بلير»، رئيس الوزراء البريطاني من بين آخرين كثيرين. وتم شن الغزو في مارس 2003، بذريعة إزالة النظام الحاكم، والذي قيل إنه كان في طور الحصول على -أو حصل بالفعل- أسلحة دمار شامل، وأدى ذلك إلى إفساح المجال لتداعي الأمن، وخلق دولة فاشلة، وظهور تنظيم القاعدة، وبروز نزاع طائفي بين الفصائل الشيعية والسنية في البلاد.
ومع وصف الكاتب البريطاني «جون كامبفنر»، أن تلك الحرب أصبحت تُعرف بأنها «معيار قياسي حول الفشل الدبلوماسي والعسكري»؛ كتب «مارتن تشولوف»، في صحيفة «الجارديان»، إن «الوهم الممتزج بالدماء»؛ سهّل لصانعي السياسة والقادة الغربيين بدء التدخل العسكري في العراق، الأمر الذي نتج عنه «عواقب كارثية» أودت بحياة مئات الآلاف، وشردت الملايين، وخلقت دول فاشلة، وقوضت بشدة أمن الشرق الأوسط.
وفي تناولهم التكاليف البشرية والاستراتيجية للصراعات، أدان المحللون، نوايا «إدارة بوش»، وحلفائها لإحداث تغيير في النظام العراقي من دون دراسة كافية لعواقب هذه العملية. وفي الوقت الحاضر، أشاروا أيضًا إلى أن الخطاب الأمريكي أصبح يتجاهل عن عمد الضرر الذي ألحقه الغزو بسمعة «واشنطن» الدولية، وكيف أن هناك فشلا ملحوظا في التعلم من الأخطاء الاستراتيجية السابقة، مصحوبة بالتحذيرات من أن هذا الافتقار إلى التفكير، سيستمر في تثبيط سياستها الخارجية، كما سيشكل خطرًا على الأمن العالمي في المستقبل.
ومن بين أولئك الذين وجهوا انتقادات قوية ومباشرة إلى الإدارة الجمهورية لـ«بوش»، و«تشيني»، و«باول»، و«رامسفيلد»، وآخرين، «سوزان غلاسر»، في صحيفة «ذا نيويوركر»، حيث شجبت «نزعتهم العسكرية المتهورة». فيما اتهم «بول بيلار»، من جامعة «جورجتاون»، «البيت الأبيض»، بارتكاب «أحد أسوأ الأخطاء الفادحة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة على الإطلاق». فيما وصف «مايكل هيرش»، في مجلة «فورين بوليسي»، القرار بـ«الجرأة المتهورة»، والتي حذر المؤرخ اليوناني القديم، «ثيوسيديدس» القادة العسكريين، منها منذ أكثر من ألفي عام.
وفي تفسيره للخطأ الاستراتيجي الجسيم للولايات المتحدة، رفض «ستيفن ويرثيم»، من جامعة «ييل»، «سعي أمريكا إلى الهيمنة العالمية»، وعدم إدراكها عواقب الغزو بالشكل الذي أفسح فيه النجاح العسكري الأولي له؛ الطريق لتفشي «الفوضى والتمرد والدمار والموت». وبالفعل، اعترف «ديفيد فروم»، في مجلة «ذي أتلانتيك»، و«ماكس بوت»، من «مجلس العلاقات الخارجية» -وهما من المؤيدين السابقين للتدخل العسكري- كيف أنها «بالغت في تقدير احتمالات التدخل الأجنبي في العراق، لبناء نظام بديل مستقر ولائق»، وكيف كانت «متفائلة بشأن آفاق تصدير الديمقراطية بالقوة».
وبالمثل، أثار دور «المملكة المتحدة»، في الغزو «انتقادات شديدة». ووصف الكاتب البريطاني، «جيفري ويتكروفت»، دعم حزب العمال الحاكم لرغبة «واشنطن» في الإطاحة بصدام، بأنه «أكثر المغامرات ضررًا في تاريخ حكومة بريطانية منذ عام 1945»، واصفا مشاركة بلاده بأنها «فشل ذريع» للمؤسسة السياسية، فيما انتقد الصحافة الوطنية بالبلاد لعدم تقديمها توبيخا قويا للحكومة لانضمامها إلى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة.
ومع انتقاد «ويتكروفت»، لرئيس الوزراء «بلير»؛ لرفضه تحذيرات «مايكل ويليامز»، المسؤول الخاص بشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية، من «العواقب الكارثية المحتملة للغزو»؛ اعتبر «جون هاريس»، في صحيفة «الجارديان»، ذكرى الحرب بمثابة «تذكير ليس فقط بمسؤولية بلير وآخرين عن أعظم كارثة سياسية وإنسانية شاركت فيها «لندن»، منذ الحرب العالمية الثانية؛ ولكن أيضًا «عن تأثيرها في تراجع مكانة بريطانيا وتدمير ثقة الرأي العام في الحكومة». وأضاف «دان صباغ»، في صحيفة «الجارديان»، أن الحرب «أثرت أيضًا في السمعة الأخلاقية»، لأجهزة المخابرات البريطانية وقواتها المسلحة لجيل كامل؛ بسبب اعتمادها على «الأدلة المعيبة»، بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية.
وشدد المعلقون في تحليلهم لتأثير الغزو، على ما حدث للعراق والأمن الإقليمي الأوسع من ضرر كبير. ومع إشارة «ويرثيم»، إلى الطريقة التي «قضت بها «واشنطن»، عقدًا من الزمن في تحطيم البلاد»، ثم «محاولة توحيدها مرة أخرى من دون جدوى»؛ فقد رأى «كونور إيكولز»، من «معهد كوينسي للحكم المسؤول»، أن الحرب مزقت «نسيج المجتمع العراقي ذاته، وأن أولئك الذين نجوا يعيشون الآن «صراعات آلام عقلية وجسدية يصعب تخيلها لمعظم الأمريكيين».
ووفقًا لبيانات صادرة من جامعة «براون»، لقي ما بين 185.000 و208.000 مدني عراقي حتفهم في الغزو، وتراوح إجمالي عدد القتلى من المقاتلين وغير المقاتلين في المنطقة بين 275.000 و306.000، إلى جانب 9.2 ملايين نازح في العراق وحده منذ عام 2003. فيما تمت الإشارة إلى الكيفية التي أدت بها حروب الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر إلى نزوح ما يصل إلى 37 مليون شخص في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
من جانبه، أشار «فروم»، إلى أنه في حين أن «واشنطن»، كانت «تأمل أن يؤدي تغيير النظام في العراق إلى الاستقرار في الشرق الأوسط»، لكنها بدلاً من ذلك «أغرقته في حرب أهلية» مع حكوماته «الضعيفة وغير المستقرة». ورأى «تشولوف»، أن «الموروثات الأساسية للغزو تشمل «تشجيع إيران»، وظهور «المخربين» المتطرفين، مثل القاعدة، وداعش، وبالتالي، «تفكك» سوريا أيضا.
وفيما يتعلق بتداعيات الغزو على التدخل الأمريكي طويل الأمد في الشرق الأوسط؛ أشار «ستيفن والت»، في صحيفة «فورين بوليسي»، إلى أن «عمليات الاحتلال المكلفة، ووجود دول فاشلة، وحركات إرهابية ناشئة، والكوارث الإنسانية الأخرى»، قد أدت جميعها إلى إلحاق الضرر بسمعة «واشنطن»، في الشرق الأوسط وعلى الصعيد الدولي. وأضاف «صباغ»، إلى أن حالات التعذيب والانتهاكات لحقوق الإنسان الموثقة ضد العراقيين، لا سيما في سجن «أبو غريب» عام 2004، أظهرت «الفساد الأخلاقي» للجيوش الغازية، والتي كانت بمثابة «عار» بالنسبة إلى الدول الغربية.
ووسط التصورات المتزايدة عن تضاؤل قوة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط منذ الغزو، كان هناك دور أكثر بروزًا للصين في الشؤون الاقتصادية والسياسية. وبالإضافة إلى توسطها مؤخرًا لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران؛ أشارت صحيفة «فاينانشيال تايمز»، إلى أن بغداد أصبحت «واحدة من أكبر المستفيدين من مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس «شي جين بينغ». وبحسب «معهد أمريكان إنتربرايز»، فقد تلقت أكثر من 32.5 مليار دولار من الاستثمارات الصينية منذ عام 2007، مع الوضع في الاعتبار تلقيها أيضًا ما يقرب من 7.5 مليارات دولار في العامين الماضيين فقط.
وبالإضافة إلى إدانة قرار الغزو، وانتقاد وسائله، والتحذير من تداعياته على الشرق الأوسط ككل؛ أشار المراقبون أيضًا إلى مخاوف عدم تعلم الغرب من هذه الكارثة، والتعرض لخطر تكرارها على حساب الإضرار بالأمن العالمي بأكمله. ورأى «ويرثيم»، أن «أمريكا»، تحاول «نسيان حرب العراق»، ويبدو أنها غالبًا «اختفت من ذاكرتها تمامًا». وبشكل خاص، أشار إلى تجنب الرئيس «بايدن»، ذكر «غزو عام 2003»، عندما تحدث عن الحرب الأوكرانية عام 2022، باعتبارها أكبر عملية عسكرية على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، متناسيًا نظيرتها بالعراق. وفي حين قالت «هيذر كونلي»، من «صندوق مارشال الألماني»، أن «واشنطن»، لديها «فقدان ذاكرة تاريخي دائم» لأخطائها؛ فقد حذر «ويرثيم»، من أن «محاولة نسيان» الأخطاء الاستراتيجية هي «الطريقة الوحيدة التي تضمن الفشل في التعلم»، منتقدًا أنها لا تزال مستمرة في «عدم إدراك أن قوتها تهدد آخرين، وتزعزع استقرارهم».
وعلى الرغم من أن وزير الخارجية الأمريكي الحالي «أنتوني بلينكن»، عند تسلمه مهام منصبه عام 2021، أكد أن إدارته «لن تعزز قيم الديمقراطية من خلال التدخلات العسكرية الباهظة»، ولن تحاول «الإطاحة بالأنظمة بالقوة»؛ إلا أن «جون جراي»، في مجلة «نيو ستيتسمان»، لديه حذر من أن «أوهام» تغيير الأنظمة بقيادة الغرب «لم تتبدد» حتى بعد فشل غزو العراق، وأنه إذا كانت «واشنطن» عازمة على تغيير القيادة في «موسكو»، لإنهاء الحرب الأوكرانية -وفقًا لما ألمح إليه «بايدن» في مارس 2022- حينها سيكون «محكوما عليها بتكرار أخطاء العراق، وليبيا، وأفغانستان، وغيرها.
من ناحية أخرى، أشار «كامبفنر»، إلى أن القدرة التاريخية للولايات المتحدة على التأثير في الأطراف الدولية، ورؤيتها حول الحرب الأوكرانية، قد «تضاءلت إلى حد كبير»؛ بسبب تاريخ سجلاتها وتدخلاتها العسكرية، ناهيك عن استمرار عديد من الحكومات «بالاستشهاد بغزو العراق، كأساس لشكهم في النوايا الغربية». ومع ذلك، أصر الكاتب أيضًا على أن مثال غزو عام 2003، «لا يمكن أن يبرر»، عدم مواجهة الاستبداد الذي نواجهه اليوم، هو أمر مفاده «لا يجب الاستسلام في الدفاع عن قيم يستحق القتال من أجلها».
وفيما يتعلق بديناميكية الغزو في منطقة الشرق الأوسط، أشار «ويرثيم»، إلى أن الأمريكيين «رفضوا الخروج من العراق» جزئيًا؛ بسبب أن استمرار تمركز قواتهم سيخدم الجهود المبذولة لمنع «إيران» من حيازة سلاح نووي، وهو ما دفع بعض المعلقين إلى الحكم على أن «البديل الوحيد لفشل الدبلوماسية الغربية في هذا الصدد هو الحل العسكري». ومع ذلك، اعترض «بوت»، بشدة على هذه الرؤية، وحذر من أنه «لا يوجد سبب للاعتقاد بأن أي حلول أمريكية، باستثناء الغزو المباشر،» يمكن أن يطيح بالنظام في طهران، مستشهدًا بحالة العراق، مؤكدا أن هذا الخيار لا ينبغي النظر فيه مهما كان الأمر.
واتفاقًا مع هذا التقييم، حذر «ويرثيم»، من أن «سعي واشنطن بشكل أحادي لفرض السيطرة والسيادة»، وسط التنافس مع «الصين»، و«روسيا»، يخلق «نوعا» من الإخلال بالتوازن بين الحفاظ على وجودها، وبين حماية مصالحها»، وبالفعل، اتضح هذا جليًا في دروس الفشل في إدارة غزوها للعراق، وسجلها في التدخل العسكري بالمنطقة خلال عقدين من القرن الحادي والعشرين.
على العموم، بعد عشرين عامًا من الغزو الذي قادته «الولايات المتحدة»، و«المملكة المتحدة»، على العراق، وإسقاط نظامه؛ هناك إجماع بين المراقبين الغربيين على أنه كان «خطأ استراتيجيًا كارثيًا»، ومن وجهة نظرنا كان هذا جريمة حرب ارتكبها جورج بوش وتوني بلير وعدد من المساعدين - كان يجب تقديمهم لمحكمة الجنايات الدولية - نظرًا إلى ما ترتب عليه من دمار وآلام على الشعب العراقي وتفكيك الدولة، وعلى أمن الشرق الأوسط أيضًا، في حين كانت هناك مكاسب جيوسياسية لإيران، وحروب أهلية طالت كل من سوريا وليبيا واليمن وغيرها، وتقوية شوكة متطرفي «القاعدة»، و«داعش»، على حد سواء.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك