إن القرآن الكريم في مبدئه ومنتهاه، وفِي وسائله وغاياته، وفِي فروعه وأصوله كتاب هداية، وهو فوق هذا وذاك المعجزة الوحيدة الباقية من معجزات الرسل الكرام (عليهم الصلاة والسلام)، وهو أيضًا شرعة ومنهاج، وهو كذلك سجلٌ حافلٌ بأنباء من سبق من الأنبياء وأقوامهم، وفيه إشارات علمية من الممكن أن يستخرج منها المسلمون عند التدبر أسبابًا للترقي الحضاري.
أما كون القرآن الكريم كتاب هداية، فقد أشار القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان..) البقرة / 185.
وأشار أيضًا حول هذا المعنى في بداية سورة البقرة في قوله تعالى: (ألم(1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين(2)) سورة البقرة.
إذًا، فما الفرق في الهدايتين، الهداية في القرآن الكريم تأتي بمعنى الدلالة، وتأتي أيضًا بمعنى المعونة والتمكين، فحين يتوجه الخطاب في القرآن إلى الناس المسلمين منهم وغير المسلمين، فيكون معناها هداية الدلالة، فإذا قبل الإنسان هذه الدعوة وأخلص لها أعانه الله تعالى بالهداية الثانية، وهي هداية التمكين والمعونة وهذه للمتقين الذين أشارت إليهم سورة البقرة في بدايتها.
هذه هي هداية التمكين والمعونة، وهي هداية الترقي في معارج أنوار القرآن العظيم، وبينات الوحي المقدس التي كلما أقبل عليها المسلم بالتدبر والتأمل زاده الله تعالى من أنوار البيان، وأجزل له في العطاء، ولا يزال المسلم يتدرج في معارج الكمال أو شيئًا قريبًا منه حتى يكون من الذين رضي الله تعالى عنهم.
ولقد تحدث القرآن الكريم عن الرؤى المستقبلية التي اختص الله تعالى بها المؤمنين لينبه عقولهم، ويستثير هممهم لإعمال العقل للبحث والتقصي في آلاء الله تعالى، ولنتأمل قوله تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب(190) الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار (191)) آل عمران.
وها نحن نشير إلى بعض الرؤى المستقبلية التي يعدنا بها الحق سبحانه وتعالى، ويدسها في آياته، ولن نفصل فيها لأن المقام ليس مقام تفصيل، ومن هذه الرؤى يقول سبحانه: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) سورة النحل / 8. الحديث في هذه الآية الجليلة خاص بهذه المخلوقات في عصر تنزل القرآن، وبوظيفتها في مجال التنقل والسفر، وهذه المخلوقات هي التي كانت على عهد التنزيل المشهورة كوسائل نقل وانتقال عند العرب، فذكرها لهم وأشار إليها لكن القرآن لم يغلق الباب دون هذه الوسائل، ولَم يحصر وسائل السفر والانتقال فيها، بل أشار إلى ما يأتي به المستقبل من تطور في وسائل النقل بحسب تطور العصر، واجتهاد العقل البشري فيما ينفع الناس، وييسر لهم سبل النقل والانتقال، لقد أشار القرآن إلى إمكانية ابتكار وسائل تؤدي الأغراض نفسها وبكفاءة عالية بسبب تقدم الزمن، وترقي العقل البشري، واكتشاف قوى جديدة تحرك الآلات الثقيلة، وهذه الإشارة ندركها في قوله تعالى: (ويخلق ما لا تعلمون) إشارة واضحة الدلالة على المستور عنا في هذه الوسائل.
إذًا، فكل ما استحدثته العقول من وسائل حديثة في هذه المجالات هي من مكنونات هذه الآية الجليلة!
آية أخرى فيها إشارة إلى ما سوف يكشفه المستقبل من نبوءات علمية نجد ذلك في قوله تعالى: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) يس / 36.
والزوجية سنة من سنن الله تعالى في الحياة أشار القرآن إلى بعضها وأخفى بعضها، وما أخفاه أعظم مما صرح به، وكشف ستره للناس. ومن الوعود والعهود، بل من البشارات التي بشر الله تعالى عباده بها قوله سبحانه: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفِي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) فصلت / 53.
هذا الوعد الذي قطعه الله تعالى على نفسه لعباده المؤمنين الذين وعدهم بالعطاء، والمنح الربانية إذا هم أقبلوا على كتابه العظيم بالتدبر والتأمل في أن يكشف لهم بعض كنوزه المدفونة في آياته، صحيح أن القرآن لم يأت ليكون كتاب علم من علوم البشر التي تتطور بتطور الزمن والعقول التي تبحث في آلاء الله تعالى، لكن فيه إشارات تتنبه لها العقول الراشدة، والإنسان مهيئ لهذا لأنه ورث أساسيات العلوم من أبيه آدم (عليه السلام) الذي علمه الله تعالى كل الأسماء، قال تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) البقرة /13.
وكلمة «كلها» التي جاءت في الآية تفيد الشمولية لكل ما يحتاج إليه الإنسان في حاضره ومستقبله، ولا عجب أن ندرك في الآتي من الأيام تحقق نبوءات القرآن، ولقد أشار القرآن الكريم إلى منه وفضله على عبده ورسوله محمد (صلى الله وسلم عليه) فقال: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا) النساء / 113.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك