في أدبيات الحرب من السهل أن تبدأ الحرب لكن من الصعب أن تنتهي. والحرب تبدأ بقرار واحد وقد تنتهي بأكثر من قرار، وهذا ينطبق على الحرب الأوكرانية التي بدأت بقرار روسي للرئيس بوتين بدوافع كثيرة أبرزها استعادة مجد الإمبراطورية الروسية، حيث تسعى روسيا إلى الحفاظ على نفوذها في منطقة البحر الأسود ومضيق كيرتش، والنزعة القومية، حيث إن المناطق الشرقية لأوكرانيا تعد موطنا للأوكرانيين الناطقين بالروسية. وكما يقول المؤرخ الأوكراني إيلي بوشاك: «إن العلاقة بين روسيا وأوكرانيا وبين كييف وموسكو تشكل المشكلة الأساس لتاريخ أوروبا الشرقية».
وبرغبة روسيا في تغيير قواعد النظام الدولي من أحادية القطبية إلى متعدد الأقطاب، وبالمقابل الأطراف الأخرى المباشرة للحرب وتتمثل في الولايات المتحدة تسعى إلى إجهاض القوة الروسية والحيلولة دون منافستها لأحاديتها، وأوروبيا تحاول استعادة قوة حلف الناتو، بضم دول جديدة مثل السويد وفنلندا.
وهذه الدول اليوم قد تتحكم في نهايات الحرب وليس روسيا، وهذا ما يفسر لنا أحد الأسباب لاستمرارها. ولعل الخطأ الذي وقع فيه بوتين اعتقاده أنها حرب لأيام قليلة يتم خلالها إسقاط حكم زيلينسكي وكييف التي تعتبرها روسيا أم المدن الروسية. أما ما لم يتوقعه بوتين فهو هذا الحراك الأمريكي والأوروبي، لتتحول هذه الحرب إلى حرب كونية في تداعياتها، فلم تنج دولة من آثارها الاقتصادية، ولعلها تكون من أكثر الحروب التي تترتب عليها خسائر كبيرة خلال عام واحد. فزادت الخسائر المالية على ٢،٨ تريليونات دولار تكفي لمعاجلة كل المشاكل الاقتصادية من فقر وكساد اقتصادي عالميا. وتجميد 300 مليار دولار روسي في البنوك الأوروبية كانت تدر أكثر من مائة مليار دولار على الخزينة الروسية. ونحو 100 ألف قتيل روسي وأوكراني، إلى جانب نحو 16 مليون لاجئ أوكراني، وتدمير بنية الدولة كلها، وحاجتها اليوم إلى أكثر من 750 مليار دولار لإعادة إعمارها، وفقدانها حوالي 20 في المائة من أراضيها التي احتلتها روسيا وتصر على بقائها بعد استفتاء سكانها.
وهذه الخسائر خلال عام واحد فكيف لو استمرت الحرب عاما آخر؟ ولوعدنا إلى الموقف الأمريكي الذي بات العامل الرئيس في استمرار هذه الحرب وعدم توقفها ما أشار إليه السفير الفرنسي موريس جوردو والذي عمل مستشارا للرئيس شيراك من أن الرئيس الفرنسي كلفه إجراء اتصالات مع كل من موسكو وواشنطن عام 2006 لبحث إمكانية تسوية الأزمة بمنح حماية متبادلة لأوكرانيا من قبل الأطلسي وروسيا.
لكن الولايات المتحدة رفضت الفكرة.. وهذا يؤكد لدينا مصداقية الفرضية التي تقوم عليها الحرب وموقف الولايات المتحدة الذي أكد عليه الرئيس بايدن في زيارته المفاجئة لكييف وتصريحه لن نسمح لروسيا أن تنتصر في الحرب. ويقف وراء هذا الموقف أن هذه الحرب قد تقود روسيا إلى حرب على أقاليم أخرى، وإشكالية هذه الحرب أن الحروب الكبرى تحكمها توازنات القوة والقدرة على استمرارها نظرا إلى توفر الموارد والقدرات العسكرية والاقتصادية لديها، ونحن هنا أمام نموذج للحرب الكبرى بين روسيا وأمريكا وأوروبا تقوم أوكرانيا فيه بدور الوكالة فيها. وسبب آخر قدرة روسيا على الصمود في مواجهة العقوبات وتعويضا بالانفتاح على دول آسيا وتصدير النفط والغاز وتغذية الروح القومية الروسية والالتفاف حول الرئيس بوتين وتعليق المشاركة في معاهدة الأسلحة الاستراتيجية نيو ستارت.
وفي الوقت ذاته هناك دول استفادت من الحرب وخصوصا الصين والدول المصدرة للنفط والغاز وهو ما منح هذه الدول دورا أكبر للمساعدة في تخفيف تداعيات الحرب والاستعداد للتوسط لإنهائها. وقد تكون الصين بقوتها وقدرتها وعلاقاتها الأكثر استفادة من الحرب وتأثيرا في روسيا، وتفتح المبادرة التي أعلنتها الصين نافذة من التفاؤل لدبلوماسية الحل وتقوم على ركيزتين الأولى عدم جواز ضم الأراضي بالقوة، والركيزة الثانية اعتبار وتفهم للدواعي الأمنية الروسية لكن المعضلة هنا في الأقاليم التي ضمتها روسيا بعد استفتائها.
وتبدو هذه الحرب أمام أكثر من سيناريو، السيناريو القبرصي بتقسيم الأراضي وقيام حالة دولة للأقاليم التي ضمتها روسيا. وسيناريو استمرار النزاع في إطاره القائم واحتوائه جغرافيا. وسيناريو التسوية والحل الدبلوماسي وتبني استراتيجية حفظ ماء الوجه لكل من روسيا وأكرانيا، واستبعاد سيناريو النصر والهزيمة النهائية.
ويمكن القول إن هناك وجها آخر لهذه الحرب لفهمها وتفسير تطوراتها وهو الجانب الحضاري والأيديولوجي العقيدي، وهنا يبرز كتاب فوكومايا «نهاية التاريخ» الذي كتبه في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي. وتصديقا لمقولة المفكر الأمريكي هنتنجتون صدام الحضارات، وما قاله جوزيب بوريل سكرتير الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي: إن أوروبا هي الحديقة الغناء وواحة الديمقراطية وما عداها سوى مساحات من الأحراش والأدغال تعيش بها الوحوش الكاسرة. وبالمقابل يقول الفيلسوف الروسي الأفضل لروسيا ألا تعيش في أوروبا ليكون شعبها غجرا في وسط القارة الأوروبية، والأفضل لها التوجه نحو الشرق أي آسيا.
يبقى أن هذه الحرب قد غيرت من قواعد النظام الدولي القائم بالتحول نحو القطبية وسباق التسلح ودخول دول مهمة في هذا السباق مثل اليابان وألمانيا، وأن الولايات المتحدة لم تعد تملك نفس عناصر الهيمنة الأحادية، وهذا قد يكون المفتاح لنهاية هذه الحرب قبل أن تتحول إلى حرب نووية الكل خاسر فيها وفي عصر اللا يقين تبقى كل السيناريوهات قائمة.
{ أكاديمي متخصص في العلوم السياسية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك