أحيانا تتعقد بدائل المستقبل إلى حد يدفع بالمحللين في تحليلاتهم إلى الميل في اتجاه التنظير قليلا سعيا نحو فهم أفضل أو ممكن. يحدث هذا عندما تتعقد الأمور عند حدود قصوى ويتصرف اللاعبون، وفي حالتنا اللاعبون الكبار هم دول نووية أو ما شابه، تصرفات المراهقة أو اليأس أو تسلك عن عمد مسالك الاستهتار.
بعد مراجعة ما قيل في قاعات الخطب والمناقشات العلنية وما تسرب من أحاديث في غرف وصالونات مغلقة في مؤتمر ميونيخ للأمن وبعد الاستمرار في متابعة تصرفات من جانب دول كبرى وصغرى وبعضها نووي التسلح ومقارنة هذه التصرفات بسلوك المراهقة أو بدت لنا هكذا كمعاصرين لها ولكثير من علماء السياسة الذين سجلوا تفاقم هذا السلوك في كتب وأبحاث. كشفت المقارنة لي على الأقل أن اللاعبين الرئيسيين في الأزمة الراهنة يستخدمون درجة عليا من القسوة والبشاعة لا أجد تبريرا لها إلا أن لهؤلاء اللاعبين أغراضا وأهدافا لا يعلنون عنها. لا أقصد أن هذه الدول لم ترتكب حماقات في السابق فبعضها ارتكب بالفعل جرائم ضد الإنسانية، إنما أقصد أن ما اتضح لنا حتى الآن يتجاوز في بشاعته أفظع ما ارتكبه الكبار كما الصغار في أوقات عشتها أنا وأبناء وبنات جيلي. عشنا فظائع ارتكبت في بودابست وبراج عندما اقتحمتهما القوات السوفيتية في أزمتي 1956 و1968 على التوالي. عشنا فظائع أخرى، وإن أبشع، في حربي أمريكا ضد فيتنام والعراق وقبلهما في حرب شنتها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر. اليوم نحن شهود على حرب دمار شامل تشنها روسيا على أوكرانيا وحرب ليست أقل بشاعة تشنها أمريكا على روسيا باستخدام أوكرانيا وكيلا لها. تجري أمام أعيننا التضحية بشعبها وعمائرها ومصانعها وحقولها ومحطاتها النووية لهدف لا يخفى ضد الكيان الروسي.
نحن شهود في الوقت نفسه على نظام جديد ابتدعته الولايات المتحدة وتطبقه على روسيا ومعها كل دولة في العالم تسول لها نفسها التعاون معها. نظام عقوبات متصاعدة ترقى أو تنحدر إلى هدف فرض العدم وليس مجرد الهزيمة على الخصم من دون أي اعتبار يذكر لما يمكن أن تسببه هذه العقوبات من أضرار جسيمة للبشرية بأسرها. ففي أي مشهد من مشاهد النظام الدولي نعيش نحو أي مشهد نسير أو نساق؟
أولا: نعيش في عصر الأحادية القطبية، ومن أسمائه الأخرى اسم عصر الهيمنة الإمبراطورية. المحبون لهذا المشهد يعتقدون في قدرته الأسطورية على إحلال السلم، ومن هنا اختلقوا عبارة لحظة القطب الأوحد باعتباره عصر سعادة وأمن وحبور. قيل إنه يأتي غالبا بعد مرحلة قطبية ثنائية مثلما حدث بعد مرحلة الحرب بين اسبرطة وأثينا وبعد مرحلة هيمنة نسبية من جانب فرنسا وبريطانيا في القرن التاسع عشر على صراعات القارة الأوروبية، وإن اختلطت الهيمنة الثنائية هناك بحالة توازن قوة أشبه ما تكون بمشهد التعددية القطبية.
ثانيا: هؤلاء يعتبرون أن مرحلة الحرب الباردة كانت في الحقيقة مشهدا لقطبية ثنائية تدهورت في أواخرها أو ارتقت إلى مشهد القطبية الأحادية، المصير المتوقع لأي قطبية ثنائية. بدأ مشهد الأحادية القطبية مع انفراط عقد القطب السوفيتي بعد جهود مكثفة من جانب القطب الأمريكي لدفع الاتحاد السوفيتي نحو سباق تسلح لم تقو موسكو على تحمل تكلفته الباهظة. انتهى السباق بانفراد الولايات المتحدة بالقيادة وأيضا بالهيمنة.
كانت الولايات المتحدة قد استعانت بالعولمة أملا في فرض منظومة قيمها على العالم بأسره. كان للعولمة الفضل في انتقال الصين من مرحلة كمون طويل إلى مرحلة التحول الكلى نحو الاقتراب من النظام الدولي للاستفادة مما يعرضه من تجارة حرة وأسواق وتكنولوجيات جديدة ولكن من دون الاندماج فيه.
تطور المشهد بمرور الوقت لتصبح الصين قادرة على تغييره، لو أرادت، نحو قطبية ثنائية. امتنعت الصين عن السير في هذه الخطوة الأخيرة لتتقدم روسيا في محاولة لاختراق النظام تمهيدا لاستعادة مشهد القطبية الثنائية. هكذا نشأت حالة قطبية ثنائية تحت الإنشاء، طرفاها الولايات المتحدة وروسيا. الأولى رافضة الاعتراف بما تحاول أن تثبته روسيا من حقها في استعادة مكانتها قطبا ثانيا وفي الوقت نفسه التأهب لوأد أي حلم تتعاطاه بكين عن أحقيتها بمكانة القطب الثاني أو الثالث.
لا تريد واشنطن التخلي عن مشهد القطبية الأحادية الجديد، تريد على العكس الإطالة فيه ليستحق صفة عصر السلم الأمريكي وليس مجرد لحظة أو مشهد. تريد إزالة ما طرأ عليه من شوائب مثل عودة روسيا وصعود الصين المفاجئ في سرعاته وتصميمه. موسكو ترفض إحالة روسيا إلى التقاعد وقد صارت واثقة أن حبل التقاعد يقترب من رقبتها بالتقدم الذي أحرزه حلف الأطلسي في مسيرته المحكمة التنفيذ نحو حدود روسيا رغم الاتفاقات والتعهدات المعقودة بين الرئيسين الأمريكي والسوفيتي في أواخر القرن الماضي. اختارت التخلص من الحبل المقترب من رقبتها والترتيب لحرب مع أوكرانيا تبعد بها شبهة قابلية التقاعد.
ثالثا: أما بكين وقد أدركت مبكرا نية واشنطن تعطيل أو وقف صعودها عن طريق دمجها في صف الخصم الروسي اختارت وبكل العزم الابتعاد في انتظار اكتمال أهليتها لمكانة القطب الثاني والتزام توصية الزعيم الصيني دينج هيسياو بينج قائد الانفتاح بالتريث وعدم الهرولة نحو القمة. عطلت بكين أو أحبطت خطة واشنطن لإدماجها في الصف الروسي عندما أطلقت مبادرة توسط وسلام لإنهاء الحرب الأوكرانية. لم تفلح تماما ولكنها كسبت وقتا إضافيا وضروريا في سباقها مع الولايات المتحدة تصحح فيه أخطاء اقتصادية مثل علاقة الحزب بشركات التكنولوجيا الكبرى أو تعالج آثار سياسات مكافحة الجائحة.
تدرك الصين ويشاركها هذا الإدراك عديد المحللين الأجانب أن الأمريكيين قرروا أن تكون حرب أوكرانيا درسا قابلا للتكرار مع الصين عندما يحين دورها، وهو الدور الذي اكتملت خطته ولكن عطلت تنفيذه العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا كما تسميها موسكو. يدركون أيضا أن الشبكة الجديدة للأحلاف الغربية كادت تكتمل تحت عنوان الحلف الأطلسي ــ الباسيفيكي، وعند اكتمالها سوف تجد الصين نفسها مجبرة على التخلي عن طموحها المعلن وهو إنهاء عصر الهيمنة الأمريكية. لذلك لا يقلل البعض منا من أهمية قرار الفلبينيين العودة إلى حلقة أصيلة في سلسلة القواعد العسكرية الأمريكية المحيطة بالصين ولا من أهمية القرار الأمريكي الياباني بعسكرة اليابان ولا من أهمية العودة إلى تجنيد أستراليا عدوا مناسبا للصين وقريبا منها.
رابعا: مرة أخرى تبرز حاجة العالم إلى تنظيم دولي إقليمي موازٍ للنظام الدولي ولنسميه مجموعة المائة دولة أو مجموعة دول الجنوب العالمي. يعلم قادة الجنوب أن استقلال بلادهم ورفاهية شعوبهم إنما تعتمد على مشهد دولي مختلف كلية عن مشهد الهيمنة الذي تسعى قوى أو مصالح معينة في الولايات المتحدة ودول أخرى إلى استمرار فرضه تحت مسمى النظام أحادي القطبية. نعرف في عالمنا الجنوبي حجم الظلم والحروب التي مولتها أو نظمتها أو أنشبتها دولة الهيمنة في جنوب العالم. هنا في منطقتنا الشرق الأوسطية عانينا ونعانى من عواقب حماية دولة الهيمنة للمشروع الصهيوني في فلسطين.
لن تكون هيمنة المرحلة القادمة في تطور النظام الدولي. لا يبالغ من يتصور معارك كسر عظام تسبق ولادة المشهد القادم، أولها وليس آخرها الحرب العالمية الناشبة حاليا ضد روسيا ومنها إلى الصين وأحد ضحاياها غير المباشرين الشعب الفلسطيني. أبشع علامات هذه الحرب العقوبات الاقتصادية وفي صدارتها عمليات التجويع وفي ركابها إطلاق سباق استعماري جديد لنزف البقية الباقية من ثروة إفريقيا.
من ناحية أخرى يبدو أننا سنكون شهودا على تصدع محتمل في البنيان الغربي نتيجة تطورات مثيرة بسبب ماضيه الأغبر. أوروبا نراها «تتعسكر» وأبناء جيلنا وأجيال أخرى تسبقه شهود على حجم التضحيات البشرية والمادية التي تحملتها شعوب القارة الأوروبية نتيجة عسكرة مماثلة حدثت مرارا وخلفت دمارا.
من ناحية ثالثة لا يجوز أن نتجاهل حقيقة أن الغرب شاخ أو في أحسن أحواله يشيخ بتدرج متسارع، أو نتجاهل حقيقة أن منظومة القيم الغربية لم تعد مرغوبة أو محبذة في عديد من بقاع العالم. بمعنى آخر لم تعد «رسالة الرجل الأبيض» تجد أذنا صاغية أو متفهمة.
أربعة عناصر في عالم اليوم مشتركة في صنع المأزق الراهن وتعميقه. هذه العناصر أراها كالتالي: (1) الصين مستفيدة حتى الآن من استمرار الحرب لانشغال أمريكا بالحرب الأوكرانية عنها. (2) أمريكا تزداد مع الصعوبات إصرارا على التمسك بهيمنتها من خلال استمرار نظام القطبية الأحادية. (3) روسيا مع استمرار الأزمة الدولية مهددة من الخارج ومن الداخل بالتفتيت الكبير الثاني. (4) أوروبا تعود مستودعا للأزمات ومنجما للمتاعب وبخاصة إذا استمرت ألمانيا وفرنسا تفقدان المكانة واستمرت بريطانيا تفقد القوة والثروة والاستقرار السياسي.
{ كاتب ومحلل سياسي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك