كانت سياسة عدم الانحياز، التي اتبعتها عديد من دول العالم، أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي؛ وليدة إدراك هذه الدول لضرورة أن تنأى بنفسها عن هذا الصراع، فيما تحافظ على مصالحها لدى كلتا القوتين. وكانت قوة الدفع القوية لهذه السياسة، من المؤتمر الذي عقدته بعض هذه الدول في مدينة باندونج الإندونيسية عام 1955، والذي نشأت عنه حركة عدم الانحياز، بزعامة جواهر لال نهرو، من الهند، وجمال عبدالناصر من مصر، وجوزيف تيتو من يوغوسلافيا.
بمرور الوقت، أخذت حركة عدم الانحياز، في التوسع والانتشار، وانضم إليها عديد من دول العالم حديثة العهد بالاستقلال. فبينما شارك في مؤتمر باندونج التأسيسي 29 دولة، شاركت وفود من 120 دولة في مؤتمر باكو في أكتوبر 2019، حيث كانت القمة الثامنة عشرة، وأصبحت هذه الحركة تمثل التكتل الموازن بين كفتي العالم، والحل لتجنب الانخراط في صراعات القوى الكبرى.
ويعود مصطلح عدم الانحياز، إلى كريشنامنون السياسي والدبلوماسي الهندي ووزير الدفاع، إبان رئاسة جواهر لال نهرو وزارته، حيث أطلقه في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1953، ثم أعاد نهرو، نفسه استخدامه في كولومبو بسيريلانكا عام 1954. وسبق مؤتمر باندونج، مؤتمر آسيوي عقد في الهند عامي 1947 و1949، إلى أن توسعت القاعدة بدول إفريقية في باندونج؛ بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي، ومعارضة الاستعمار بكل أشكاله، وبحث القضايا العالمية، وانتهاج سياسات مشتركة في العلاقات الدولية، وفي هذا المؤتمر شارك من الدول العربية: السعودية، والعراق، ومصر، والسودان، ولبنان، والأردن، وليبيا.
وتحقيقا لهذه الغاية، دعا مؤتمر باندونج إلى امتناع الدول النامية عن التحالف مع أي من القوتين العظميين، الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي، والتعاون معًا لدعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتم تبني إعلان المبادئ التي يجب أن تحكم العلاقات بين الدول، والتي عرفت باسم مبادئ باندونج العشرة، والتي أصبحت لاحقًا أهدافًا رئيسية لسياسة عدم الانحياز، وهذه المبادئ هي:
احترام حقوق الإنسان الأساسية وأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
احترام سيادة جميع الدول وسلامة أراضيها.
احترام مبدأ المساواة بين جميع الأجناس، والمساواة بين جميع الدول كبيرها وصغيرها.
عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
احترام حق كل دولة في الدفاع عن نفسها فرديا أو جماعيا وفق ميثاق الأمم المتحدة.
عدم استخدام أحلاف الدفاع الجماعية لتحقيق مصالح خاصة لأي من الدول الكبرى، وعدم قيام أي دولة بممارسة ضغوط على دول أخرى.
الامتناع عن القيام أو التهديد بالقيام بأي عدوان، والامتناع عن استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة.
الحل السلمي لجميع الصراعات الدولية وفقًا لميثاق الأمم المتحدة.
تعزيز المصالح المشتركة والتعاون المتبادل.
احترام العدالة والالتزامات الدولية.
وكانت قمة باندونج هي قمة التأسيس، أما القمة الأولى فقد عقدت في بلجراد عام 1961 وحضرتها 25 دولة، من بينها من الدول العربية: السعودية، مصر، الجزائر، اليمن، العراق، لبنان، المغرب، الصومال، السودان، سوريا، تونس، وفضل المؤسسون إطلاق اسم الحركة، وليس منظمة تفاديًا للبيروقراطية. وعليه، فإن هذه الحركة ليس لها دستور رسمي، أو سكرتارية دائمة، ويتم التوصل إلى مواقفها بالإجماع خلال مؤتمرات القمة التي تُعقد كل ثلاث سنوات، وتتولى الدول التي تعقد القمة فيها رئاسة الحركة حتى موعد القمة التالية، ويسبق كل اجتماع قمة اجتماع وزاري واجتماع لكبار المسؤولين. وقبل اجتماع الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة، يجتمع وزراء خارجية الدول الأعضاء لمناقشة التحديات المشتركة. وكشرط للعضوية لا يجوز لدول الحركة أن تكون جزءًا من تحالف عسكري متعدد الأطراف (كالناتو)، ومع ذلك فإن فكرة عدم الانحياز لا تعني أن تكون الدولة سلبية.
ووفق هذا المعنى، كان للحركة دور رئيسي في مناهضة سياسات التمييز العنصري، ومناصرة القضية الفلسطينية، ودعم مساعي السلطة الفلسطينية لكسب عضوية الأمم المتحدة، غير أنه مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة عام 1991، وتفكك يوغوسلافيا أحد الأعضاء المؤسسين، وتغير الخريطة السياسية والاقتصادية الدولية، وبروز تكتلات اقتصادية إقليمية؛ أخذت الحركة تسعى إلى أدوار جديدة، مثل مناهضة الإرهاب، والدعوة إلى التعاون الدولي، والتعددية، والوقوف ضد عدم المساواة في النظام الاقتصادي العالمي، إضافة إلى قضايا السلم والأمن الدوليين.
وفي ظل اندلاع الحرب الأوكرانية، يبرز موقف خاص بالدول التي تقتضي مصالحها عدم المجازفة بانضمام صريح إلى أحد طرفيها من بينها؛ مصر، والسعودية، والإمارات، حيث أدانت هذه الدول العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولكنها رفضت المشاركة في المقاطعة والالتزام بالعقوبات التي فُرضت على موسكو. وفي حين وجدت هذه الدول نفسها أمام ضغوط أوروبية وأمريكية للانضمام إلى حلف المقاطعة حتى لا تجد نفسها في خانة المعادين للغرب؛ فإن اتخاذها موقفًا منحازًا للغرب قد يقودها إلى التضحية بعلاقاتها مع روسيا، وليس من المضمون –حينئذ- الحصول على الدعم الأوروبي والأمريكي في المقابل، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان ما حدث أثناء الحرب الباردة، وكان سببا في نشوء سياسة وحركة عدم الانحياز.
ورغم أن دول الخليج ترتبط بعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة تعود إلى عام 1945، حين التقى الملك عبدالعزيز آل سعود، المؤسس للمملكة مع الرئيس الأمريكي روزفلت، فإن موقفها من الحرب الأوكرانية كان أكثر استقلالية، وتبني سياسة عدم الانحياز، وأبقى على قنوات الاتصال مفتوحة مع روسيا، العضو الرئيسي في أوبك بلس -وهي المنظمة التي تعد اللاعب المحوري في مشهد الطاقة العالمي- خاصة أن العالم لم يعد عالم القطب الواحد، ويشهد بروز أقطاب متعددة، ما يسمح بتشبيك العلاقات الدولية وتنوعها.
من ناحية أخرى، كانت هناك دلالات كثيرة على تغير السياسة الأمريكية تجاه دول الخليج، ما جعل هذه الدول تتوجس من مصداقيتها، كالانسحاب من العراق، وتركها مستباحة للنفوذ الإيراني، والانسحاب من أفغانستان، وتركها ساحة لعدم الاستقرار، وإيقاف مبيعات الأسلحة للسعودية، والاختلاف بشأن إدارة الملف النووي الإيراني، والتوجه للتركيز على الشرق الأقصى في مقابل الانسحاب من الشرق الأوسط، والموقف غير الحاسم من جماعة الحوثيين في اليمن، وعدم اعتبارها جماعة إرهابية.
وبشكل واضح، بدت استقلالية دول الخليج في عدم استجابتها للضغوط الأمريكية والبريطانية لزيادة إنتاج النفط، فيما لم يكن سلوك عدم الانحياز الخليجي في الحرب الأوكرانية سلبيًا، وقد بدا ذلك من المكالمة الهاتفية بين ولي العهد السعودي سمو الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الروسي بوتين، بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وقيام وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد، بزيارة موسكو في مارس 2022.
علاوة على ذلك، بدا انتهاج دول الخليج لموقف مستقل عن السياسة الأمريكية، في موقفها من أزمة تايوان، والعلاقات الصينية الأمريكية. وأعلنت الإمارات، يوم 4 أغسطس 2022 دعمها لسياسة الصين ووحدتها، وأهمية احترام مبدأ صين واحدة، ودعت إلى الالتزام بقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وكان هذا بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان.
وبشكل عام، تأتي هذه المواقف انسجامًا مع محددات السياسة الخارجية الخليجية، خصوصًا تجاه القوى الكبرى والتفاعلات داخل النظام العالمي، فالقاعدة العامة التي تحكم هذه السياسة هي إقامة وتطوير علاقات تشاركية مع مختلف الدول، وترتيب أولويات تلك العلاقات وفقًا للمصالح الخليجية، مع مراعاة الأسس والمبادئ الخاصة بالأمن والاستقرار في العالم، وفي مقدمتها عدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام سيادة الدول، علاوة على عدم الانخراط في أزمات أو مشكلات ليست دول الخليج طرفًا فيها، مع الحرص على تبني الحياد الإيجابي تجاهها؛ أي تجنب الانحياز إلى أي طرف من دون مبرر موضوعي، أو بمعزل عن قواعد القانون الدولي.
وفي 12 فبراير 2023، نشرت صحيفة الرؤيا، العمانية في افتتاحيتها تحت عنوان: «نحو تكتل عدم الانحياز»، إن هذا التكتل يتولى مهمة الدفاع عن السلام العالمي، وترسيخه كنموذج للتعايش والاستقرار في أنحاء العالم، وأن سلطنة عُمان، ودول الخليج العربي، مؤهلة بدرجة كبيرة كي تعمل على استضافة هذا التكتل بمساعدة دول؛ مثل الهند، والبرازيل، وماليزيا، كي تقود الجهود من أجل إرساء نظام عالمي جديد يكون بمثابة الطريق الثالث.
ويعد الموقف الخليجي من الحرب الأوكرانية، وعدم الانحياز إلى أحد أطرافها، هو موقف كثير من الدول، الأكثر ميلا إلى الحياد، أو عدم الانحياز أو الدعوة إلى تسوية النزاع على قاعدة عدم التضحية بمصير العالم، لذلك لم يجد الرئيس الروسي نفسه منعزلاً على المسرح الدولي، فهناك أصوات كثيرة ترفض الأحادية القطبية، وتتهم الولايات المتحدة بمحاولة فرض نفوذها، وأنها أساءت استخدام إدارتها للشؤون العالمية، وسعت إلى تعميم سياساتها وقيمها على العالم، كما تنتقد هذه الأصوات الطريقة التي تعاملت بها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والتي أوجدت مسببات هذه الحرب، فلم تأخذ حساسيات موسكو في الاعتبار، لهذه الأسباب لم يحصل بايدن، على اقتناع عالمي وراءه، ونجد هذا لدى كثير من الدول الآسيوية والإفريقية والشرق الأوسط، التي تضررت من أزمات الغذاء والضائقة الاقتصادية التي خلفتها هذه الحرب.
ومع سعي الولايات المتحدة، إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من الدول وراء موقفها من الحرب الأوكرانية، ورفض كثير من دول العالم هذا الاستقطاب برغم علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن، وفي مقدمتها دول الخليج؛ يبدو أن العالم على موعد جديد لإحياء أكثر قوة لحركة عدم الانحياز التي تشمل في عضويتها حاليًا 129 دولة، وقد أخذت العواصم الثلاث المؤسسة لهذه الحركة: نيودلهي، والقاهرة، وبلجراد، من هذه الحرب موقفًا مماثلاً لمواقفهم من الحرب الباردة عام 1955، حين تأسست الحركة، أضف إليهم دولا أخرى أمريكية وآسيوية، مثل المكسيك، البرازيل، الأرجنتين، السعودية، الإمارات، باكستان، إندونيسيا، فكلها أدانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولكنها رفضت المشاركة في المقاطعة، والالتزام بالعقوبات التي فرضتها الغرب على موسكو، فيما يشكل هذا منطلقًا لتشكيل اصطفاف، أو تكتل يعيد لحركة عدم الانحياز الحياة من جديد.
على العموم، تنظر الدول المتطلعة إلى إحياء هذا التكتل إلى الحرب الأوكرانية على أنها حرب أوروبية، ولا تريد أن يتم استخدامها كوكلاء من القوى العظمى، وعليه، جعلت مصالحها الذاتية هي الأساس، وخطت لنفسها مسارًا محايدًا. يأتي هذا فيما أكدت دول الخليج أهمية التمسك بالمبادئ الأساسية لحركة عدم الانحياز، وعملت على دعم جميع الجهود المبذولة من أجل تحقيق الأهداف المنشودة في إقامة عالم آمن مستقر؛ ولهذا، حرصت على المشاركة في قمة باكو الأخيرة، التي شهدت مشاركة عربية واسعة أيضًا في محاولة لإيجاد حلول لتلك الأزمات، وخلق مناخ يحقق الأمن والاستقرار الدوليين.
وفيما تستوعب الحركة أكبر عضوية بعد الأمم المتحدة، فإنه مع عدم قدرة المنظمة الدولية على القيام بدورها؛ بسبب نظام الفيتو، فإن هذه الحركة مرشحة لعودة قوية ودور تتعلق به آمال العالم في إطفاء نيران الحرب المشتعلة، وإنقاذ العالم من تداعياتها المدمرة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك