مع التسليم بأن نظريات العلاقات الدولية قد ظهرت نتيجة تطور تلك العلاقات ذاتها وهي عديدة منها الكلاسيكية والواقعية والواقعية الجديدة والليبرالية ولكل منها رواد كثيرون، فإن التساؤل الذي يطرح ذاته وبشدة هل مازالت تلك النظريات تصلح لتفسير ما يشهده العالم الآن من تطورات تتسارع وتيرتها على نحو غير مسبوق؟ تساؤل توارد إلى ذهني ليس لأنني أحد باحثي العلاقات الدولية فحسب، بل في ظل ما أجده من مأزق حقيقي أمام باحثي العلاقات الدولية في تفسير ما يحدث في العالم الآن وتأثيراته على الأقاليم المختلفة، من بينها إقليم الشرق الأوسط والخليج العربي، ذلك المأزق الذي تعبر عنه ثلاثة تساؤلات مشروعة أولها: هل نحن بصدد ظهور نظام عالمي جديد مغاير لما استقر عليه العالم منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة في مطلع تسعينيات القرن الماضي؟ وثانيها: هل بدأت الحرب العالمية الثالثة بالفعل، وليس بالضرورة أن تكون مواجهات عسكرية مباشرة بين القوى الكبرى؟ وثالثها: هل ما يحدث في العالم يمثل فرصة للدول الصغرى والمتوسطة أم أنه يزيد من معضلتها الأمنية؟
تلك التساؤلات وغيرها تحتاج إلى نمط من التفكير الاستراتيجي الذي يعني ببساطة التفكير في أبعد من اللحظة الراهنة أو بالأحرى خارج الصندوق كما يطلق عليه، ولكنه يؤسس على خبرات الماضي وتفاعل الحاضر وما قد يحمله المستقبل، وهي حلقات ثلاث تشكل مفهوم المصلحة الوطنية لكل دولة.
ففي محاولة للإجابة عن التساؤل الأول لن أحاول الإثبات أو النفي وفقاً لنمط التفكير التقليدي، ففي النهاية العلاقات الدولية هي أحد فروع العلوم الاجتماعية التي تخضع لأطر أكاديمية تتفق أحياناً وتختلف أحايين أخرى، ولكن دعونا ننظر إلى المسألة بمنظور واقعي، لماذا قررت القوى الكبرى حل الأزمات من خلال مواجهات عسكرية بدلاً من إدارتها، كما كان الحال عليه في الماضي؟ ولماذا لم يلجأ طرف ما إلى استخدام الأسلحة النووية أو على الأقل ظهور أزمة صواريخ كوبية جديدة رغم احتدام الصراع على خلفية الأزمة الأوكرانية؟ ولماذا لم يقم الناتو بضم أوكرانيا إلى عضويته؟ التساؤلات الثلاثة إجابتها واحدة، وهي أن الأزمة الأوكرانية وضعت موازين القوى الدولية على محك الاختبار، وكذلك ممارسة الردع المتبادل ولكن حال إطالة أمدها وحسمها لغير صالح الغرب، فإن ما توافق عليه الباحثون بأن النظام العالمي يتكون من ثلاثة مستويات هي دول كبرى لديها التأثير على هيكل ومسار النظام ودول كبرى ولكنها غير مؤثرة وثالثة متوسطة وصغرى تدور في فلك ذلك النظام، سيكون ذلك كله محل مراجعة، لأن المسألة لا تعني روسيا وحلف الناتو فحسب، ولنا في أزمة الصواريخ الكوبية دروس مستفادة، فبعد انفراج تلك الأزمة قال روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأمريكي آنذاك: «لن يدور الحديث بعد اليوم عن الإدارة الاستراتيجية، ولكننا يمكن أن نتحدث عن إدارة الأزمات»، بما يعنيه ذلك أنه بغض النظر عن طبيعة النظام العالمي القادم، فإن أطرافه يتعين عليها الاستعداد لإدارة أزمات طويلة الأمد من هذا النوع، يأخذنا ذلك إلى الإجابة عن السؤال الثاني: التحذيرات بشأن اندلاع حرب عالمية ثالثة لم تعد مجرد اجتهادات أكاديمية تؤسس على حالات قياس سابقة ولكنها جاءت ضمن تحذير العديد من مسؤولي أطراف الصراع الراهن في أوكرانيا من بينهم سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي الذي قال: «إن خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة جدّي وحقيقي»، فضلاً عن العديد من كتابات هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وخلاصتها أن تحقيق الأمن والمصالحة قد يبدوان هدفين متناقضين في الأزمة الأوكرانية، ولكن لا بد من التوصل إلى أي منهما عبر السبل الدبلوماسية بما يحقق مصالح الجميع في النظام الذي سوف يتمخض عن تلك الحرب، إلا أن ما استوقفني في حديث كسينجر هو أن جميع الأطراف لا بد أن تدرك تأثير التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي على ذلك الصراع على المدى البعيد، حيث قال كيسنجر: إن «العالم سيجد ذاته أمام حالة ليس لها مفهوم ثابت يمكن القياس عليه بشأن الأمن»، ويعني ذلك ببساطة أن القوى الكبرى قد تخوض مواجهات مماثلة في مناطق أخرى من العالم توظف فيها كل التقنيات العسكرية الحديثة والنتيجة فداحة التدمير وعدم القدرة على إيقاف تلك المواجهات بسهولة، يقودنا ذلك التحليل إلى الإجابة عن التساؤل الثالث، يؤكد التاريخ بما لا يدع مجالاً للشك أن القطبية الثنائية قد أتاحت قدراً من المناورة للدول الصغرى والمتوسطة عندما انقسم العالم بشكل حدي ما بين المعسكر الرأسمالي والآخر الاشتراكي، صحيح أنه من التبسيط القول بأن العالم سوف يشهد حرباً باردة جديدة ذات مضامين أيديولوجية، ولكن حالة الاعتماد المتبادل وتغير أولويات بعض القوى الكبرى والتأثير الكبير للعوامل الاقتصادية على السياسات الخارجية للدول جميعها مقومات تتيح قدراً من المناورة المحسوبة للدول الصغرى والمتوسطة للاستفادة من حالة الحراك الدولي الراهنة، ليس للاصطفاف في هذا الاتجاه أو ذاك وإنما لإعادة تفعيل منظومة الأمن الإقليمي التي تجد ذاتها في تنظيمات للأمن الإقليمي تعكس مصالح عدة دول تتشابه في سماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية، أو بدء حوارات إقليمية للحد من احتدام الصراعات الإقليمية، بالإضافة إلى تنويع الشراكات الدولية والتي لم تعد بالضرورة عسكرية.
وعود على ذي بدء، فإذا كانت التحولات الدولية الراهنة تمثل مأزقاً لمضامين نظريات العلاقات الدولية المتعارف عليها، فإن الباحثين ربما لن يجدوا ملاذاً سوى إجراء دراسات مقارنة، فالتاريخ يزخر بأزمات تتشابه وقائعها وظروف حدوثها وأطرافها مع الواقع الراهن ويمكن أن تقدم دروساً مستفادة، من ناحية ثانية، تبقى لدراسات المصلحة الوطنية ونظريات الدور جاذبيتها وأهميتها، إذ لم يعد تأثير الدول مرتبطاً بكونها دولاً كبرى أم صغرى، بل في ظل ما لديها من مقومات للتأثير، وأخيراً ثمة تساؤل مهم للغاية أتصور أنه سيكون محوراً للتفكير الاستراتيجي لسنوات مقبلة ومفاده: هل مازلنا نتحدث عن أمن عالمي وآخر إقليمي؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، فإن التساؤل المنطقي الآخر هو من يشكل من؟ حرب تحرير دولة الكويت عام 1991 أسست للنظام العالمي آنذاك، الحرب الأوكرانية أوضحت ترتيب القوى الدولية ونفوذها، صحيح أن ثمة اختلافا بين الأزمتين لكن النتيجة واحدة، وهي علاقة التأثير والتأثر بين هيكل النظام العالمي والأقاليم، وخاصة تلك التي تحتوي على مصالح جوهرية لأطراف النظام العالمي.
ولا يعني ما سبق أن تسارع وتيرة التطورات العالمية تعني عدم القدرة على تفسيرها ووضع خيارات للتعامل معها، ولكن الأمر يحتاج إلى المزج بين نظريات الواقعية الجديدة والتفكير الاستراتيجي الذي تعكسه وثائق الأمن القومي التي تصدر بشكل دوري عن الدول الكبرى.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك