ليس غريبا أن تُعلّق روسيا معاهدة الأسلحة الهجومية الاستراتيجية «ستارت 3» في إطار الأجواء الدولية المشحونة بالتوتر، بعد أكثر من عام على الحرب الروسية المتواصلة على أوكرانيا، وتدفق الدعم والمساعدات العسكرية والمادية الغربية لكييف.
يتساءل كثيرون عن الأسباب التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تعليق هذه المعاهدة المهمة مع الولايات المتحدة الأمريكية، في الحادي والعشرين من الشهر الماضي، ولماذا فعل ذلك بعد مرور عام كامل على الحرب ضد أوكرانيا؟
في البداية لا بد من الإشارة إلى أن هذه المعاهدة التي وُقعت في الثامن من أبريل 2010 بين الرئيسين آنذاك الأمريكي باراك أوباما والروسي دميتري ميدفيديف ترجمت عديد الاتفاقات السابقة بين البلدين وهدفت إلى تخفيض ترساناتهما النووية.
ومع أن المعاهدة تضمنت التزام البلدين بنشر ما لا يتجاوز 1550 رأسا نووياً استراتيجياً وتخفيض منصات إطلاق القاذفات الاستراتيجية إلى 800، وحصر عدد الصواريخ طويلة المدى بـ700 صاروخ، إلا أن كلتا الدولتين لم تلتزم ببنود المعاهدة.
لم يتوقف الأمر عند ذلك فحسب، بل ثمة سباق تسلح صامت وتجارب جديدة تستهدف تطوير الأسلحة الاستراتيجية والصواريخ الباليستية طويلة المدى، والأهم السعي إلى تبني أسلحة أكثر فتكا لإحداث خلل في توازن الرعب بين البلدين.
خلال خطابه أمام الجمعية الفيدرالية الروسية، أعلن بوتين تعليق مشاركة بلاده رسميا في معاهدة «نيوستارت»، وحمّل الغرب مسؤولية اندلاع الحرب في أوكرانيا، وأشار إلى أن واحدة من الأسباب التي دفعت بلاده إلى تعليق المشاركة في المعاهدة تتصل بعدم التزام الولايات المتحدة ببنودها.
قرار الرئيس الروسي الذي جاء على كلمة «تعليق» وليس «انسحاب» من المعاهدة، ألمح إلى أن بلاده لم تحصل على إجابة بشأن الإشراف على أسلحة الردع النووية الأمريكية، مقابل فتح المجال أمام مراقبة الأسلحة النووية الروسية. كذلك تحدث عن الطائرات المسيّرة التي حصلت عليها أوكرانيا من حلف «الناتو» والولايات المتحدة والتي أغارت على قواعد عسكرية جوية روسية توجد فيها طائرات استراتيجية.
غير أن هناك سببا أهم دعا بوتين إلى تعليق مشاركة بلاده في هذه المعاهدة، وهو الضغط على واشنطن حتى تتخلى عن دعم كييف، وكذلك محاولة روسية لتصعيد الحرب وأخذها إلى مربع الندّية وإفهام الغرب أن موسكو مصممة على تحقيق أهدافها في أوكرانيا.
أما بخصوص تعليق المشاركة، فمفاد ذلك أن بوتين رمى الكرة إلى الملعب الأمريكي، وأعطى صناع القرار هناك فرصة إعادة التفكير مليا بخصوص تقديم الدعم لأوكرانيا، من حيث نوع وحجم المساعدات العسكرية والمادية.
روسيا وإن فعلت ذلك فهي تدرك أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن مساعدة أوكرانيا، طالما أن الأخيرة تحارب بالنيابة عن واشنطن لتحجيم الدور الروسي في العالم والقارة الأوروبية تحديداً.
غير أن رسالة موسكو بشأن معاهدة «نيوستارت» ليست موجهة فقط إلى واشنطن وإنما إلى حلف «الناتو» أيضا. تسعى موسكو إلى تخويف الجيران الأوروبيين بالسلاح النووي، بهدف الضغط على واشنطن لإعادة التفكير بشأن مسار الحرب في أوكرانيا، ومن غير المستبعد أن نلحظ تحركات عسكرية على الحدود الروسية لبعض العواصم الأوروبية بهدف إعادة تموضع أسلحة نووية وصواريخ باليستية.
أيضاً ربما تقوم روسيا ببعض التجارب النووية حتى تبرهن للغرب أنها جدية جداً بخصوص تحقيق متطلباتها الأمنية في المربع الأوكراني، ويبدو أن موسكو لا تريد فقط الانتصار في هذه الحرب وإنما ترغب في إعادة صياغة مفهوم الأمن الاستراتيجي في القارة الأوروبية.
في كل الأحوال لن تقدم موسكو على استخدام السلاح النووي، لأن ذلك سيضع أمنها في خطر ويهدد مصيرها الوجودي، وكل ما تحاول فعله هو السعي إلى إقامة مناطق عازلة أو محرمة من الأسلحة الخطيرة في الجغرافيا الأوروبية الملاصقة لها.
غير أن مشكلة روسيا الحقيقية ليست مع أوروبا التي تجدها ضعيفة من دون الرعاية والتبعية للولايات المتحدة، ولذلك كل المسألة والخلاف تتعلق بالتنافس مع واشنطن على هيمنة النظام الدولي، هذا الذي تحول من الدبلوماسية الناعمة والحرب الباردة إلى الحرب التقليدية.
تعليق المشاركة في معاهدة «نيوستارت»، لا يقدم ولا يؤخر من شيء، طالما وأنه لا يحرم الدول المشاركة فيه من التخلي الكامل عن السلاح النووي، إذ ماذا يعني تخفيض الأسلحة النووية بالنسبة إلى روسيا من 5977 رأسا نوويا بحسب تقديرات اتحاد العلماء الأمريكيين إلى 1550 كما تنص معاهدة «ستارت 3».
كل ما يحصل أن روسيا في هذه الحرب مستعدة لاستخدام كل الأدوات للتشويش على مسار الحرب في أوكرانيا بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، وكل عناوين التلويح والتهديد بالنووي تأتي في إطار إدارة الصراع عسكرياً ونفسياً، وتأكيد أن روسيا اليوم ليست روسيا الأمس بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك